وهنا تعليق ثالث على موقف الصديق رضي الله عنه وأرضاه: إذا كان الصديق رضي الله عنه وأرضاه يعرف هذا الحديث القاطع: (ولاة الأمر من قريش) وهو في منتهى الوضوح فلماذا لم يذكره في أول المناقشة؟ يعني: لو قاله فإنه سيقطع تماماً باب الجدل من بدايته، هكذا نظن.
والحق أن هذا من حكمة الصديق رضي الله عنه وأرضاه، ومن فطنته، ومن توفيق الله عز وجل له، فلو ذكر هذا الحديث ولم يقدم له بالبراهين الساطعة والأدلة الدامغة والحجة العقلية في كون قريش أقدر على إدارة الأمور في دولة الإسلام، وأن العرب سيكونون أكثر طوعاً لقريش لو ذكر الحديث دون أن يفعل ذلك فقد يرفض الأنصار الانصياع له، وستقع الكارثة والله! فمن الحكمة ألا تطلب أمراً عسيراً من رجل إلا بعد أن تهيئه نفسياً، لا تكن عوناً للشيطان على أخيك، واقدر للأمر قدره، وخاطبوا الناس على قدر عقولهم، وراعوا حالتهم النفسية والمزاجية.
والأنصار مهيئون نفسياً لتولي السلطة، وأدلتهم العقلية قوية، وحجتهم المنطقية مقبولة، ويخشى عليهم ألا ينصاعوا بهدوء لأمر الله ولرسوله.
إذاً: لابد من معالجة الأمر بحكمة، والتدرج في إيصال الحكم، حتى إذا ما عرض الحكم عليهم قبلوه دون تردد، واتبعوه دون شك، إنه فقه راق وحكمة رائعة، هذا هو الصديق الذي عرفناه رضي الله عنه وأرضاه.