وهنا تعليق آخر هام على الحوار القصير جداً الذي دار بين أبي بكر الصديق وسعد بن عبادة رضي الله عنهما: موقف سعد بن عبادة رضي الله عنه حق، وهذا الموقف من أعظم المواقف في التاريخ على الإطلاق، ومن الواضح أننا لم نعط للموقف حقه، ولم نعط لـ سعد بن عبادة رضي الله عنه وأرضاه حقه، ولم نعط للأنصار حقهم، فكيف يغفل المسلمون عن حدث مثل هذا فلا يتعلمونه ولا يعلمونه؟ وكيف لا يظهرونه وغيره من المواقف الخالدة جداً جداً في التاريخ الإسلامي؟! فهذا رجل سيد في قومه كبير في عائلته يقف وحوله الفرسان والجنود والأنصار والعشيرة، ويقف في سقيفته وليس سقيفة الأنصار، بل سقيفته هو شخصيًا، سقيفة بني ساعدة، فهو سعد بن عبادة الساعدي الخزرجي، وأين السقيفة؟ في بلده المدينة المنورة، وقد رشحه قومه للخلافة والرئاسة والزعامة، وليس على شركة أو مسجد أو نادي أو حزب، بل رشحوه على أمة وعلى دولة، وسعد بن عبادة رضي الله عنه يتمتع بذكاء وفطنة وحسن إدارة، وتأييد شعبي حقيقي في بلده.
يقف هذا الرجل الممكن أمام رجل لاجئ سياسي ولجأ إليه، وإلى بلده، يقف هذا الرجل بعد أن فر من قومه فآواه، هذا الرجل الممكن آواه وأكرمه ونصره وأعطاه، يقف هذا الرجل اللاجئ بين رجلين مهاجرين من بلده فقط، وهما أيضاً لاجئان إلى هذه البلد، يقف الثلاثة الرجال في بحر من الأنصار، فإذا بالرجل اللاجئ يقول له: قريش ولاة هذا الأمر، هكذا بسهولة ينزع الأمر الذي كان قد وكل إليه، ويعطيه إلى غيره! فماذا يكون رد فعل السيد والزعيم؟! يقول في بساطة شديدة: صدقت، أنتم الأمراء ونحن الوزراء، لا جادل، ولا أخذ الحديث على محمل معين أو محمل آخر، بل قال: صدقت، أنتم الأمراء ونحن الوزراء، فأي نفس طاهرة؟ وأي روح زكية؟ وأي رجل وقاف عند كتاب الله عز وجل وعند حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وكم من الدماء حقنت ولو شاء هذا الرجل لسالت أنهاراً في شوارع المدينة؟! وكم من الأرواح لو شاء هذا الرجل لقتلت بالآلاف؟! فأي فتنة قمعت؟ وأي وحدة بين المسلمين حدثت؟! إنها آثار مجيدة ونتائج هائلة لموقف واحد وقفه الصحابي الجليل سعد بن عبادة رضي الله عنه وأرضاه، وقفه لله، وكان بيده أن يقف الموقف لنفسه، لكنه ما فعل.
فأين الدنيا في عين الأنصار كما اتهمهم المستشرقون وأذنابهم؟ ولو كانت الدنيا كما يدعون هي الباعث لهم على الاجتماع في سقيفة بني ساعدة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم أكانت تقنعهم هذه الكلمات؟ أكانوا يقفون ويرضخون لحديث رواه في ساعتها رجل واحد فيصبح في نظرهم مستفيداً من نتائجه؟ والمستشرقون الذين طعنوا في الأنصار أحد رجلين: إما رجل جاهل لا يعرف معنى القلوب المؤمنة، والنفوس المخلصة، يقيس الأحداث بمقياس العصر الحديث الذي طغت فيه المادية على الناس، والذي كثرت فيه المؤامرات والدس والكيد والغش والنفاق والخداع.
والرجل الآخر هو رجل حاقد موتور، رأى ديناً قيماً ورجالاً أخياراً، وتاريخاً ناصعاً خالداً نادرًا، فأكل الحقد قلبه، فرأى الحق وأغمض عينيه عنه، وعلم الصواب وخالفه، {أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ} [النحل:72].
هؤلاء المستشرقون -جهالاً كانوا أو حاقدين- قد فعلوا في التاريخ ما فعلوا، وقد يكون عندهم ما يبرر جرائمهم، لكن أين المسلمون؟ أتراه عدلاً أن نترك هذا الكنز الثمين من القيم والأخلاق والروائع، ونذهب لدراسة تاريخ أوروبا أو تاريخ الفراعنة أو تاريخ الحضارة في الصين أو الهند؟ أتراه من الحكمة أن نترك أعداءنا يعبثون بتاريخنا، ونسلم لهم الرقاب، ونتبعهم دون سؤال ولا استفسار؟ أتراه صحيحاً أن ينشغل علماء المسلمين عن دراسة تاريخنا وشرحه وتبسيطه للشباب في هذا الزمن الذي زادت فيه الهجمة الصليبية الشرسة على ديننا وأوطاننا؟ أليس خيراً لنا وللبشرية أن نستمتع بدراسة روائعنا التاريخية وأصولنا الدينية؟ فأي أمة أعظم من أمة الإسلام؟ وأي تاريخ أنقى من هذا التاريخ؟ والله! لا أجده.