إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم اغفر لنا خطيئتنا وجهلنا، وإسرافنا في أمرنا، وما أنت أعلم به منا، اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا.
وصل اللهم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد: فمع الدرس الثامن من دروس الصديق رضي الله عنه وأرضاه.
في الدرس السابق تحدثنا عما دار في سقيفة بني ساعدة، وكيف رشح الأنصار للخلافة رجلاً منهم هو الصحابي الجليل: سعد بن عبادة رضي الله عنه وأرضاه، وذلك اعتقاداً منهم أن الخلافة يجب أن تكون فيهم.
وذكرنا كيف دخل أبو بكر وعمر وأبو عبيدة رضي الله عنهم أجمعين إلى السقيفة، وكيف عرضوا طرحاً جديداً في هذا الأمر، وهو: ترشيح رجل من المهاجرين، وكانت حجة المهاجرين في ذلك الأمر: أن العرب جميعاً لن تسمع وتطيع إلا لرجل من قريش؛ لكون الرسول صلى الله عليه وسلم منهم، ولكونهم أوسط العرب داراً ونسباً.
والعرب في المعتاد لا يألفون أن يتأمر عليهم رجل من خارج قبيلتهم، لكنهم قد يقبلون برجل من قريش لمكانتها القديمة في النفوس، والتي زادت ولاشك بخروج الرسول صلى الله عليه وسلم فيهم.
ودارت نقاشات وجدالات طويلة بين المهاجرين والأنصار، وكانت الحجة أقوى وأظهر في صف المهاجرين، ولم ترجح الكفة بكاملها في صف المهاجرين إلا عندما لمس أبو عبيدة بن الجراح أمين الأمة قلوب الأنصار، وذكرهم بتاريخهم المجيد، وأنهم دائماً كان يؤوونه وينصرونه، فلا داعي أن يكونوا أول من يبدلون ويغيرون.
وذكرنا في الدرس السابق الاستجابة العظيمة من الأنصار لنداء أبي عبيدة رضي الله عنه وأرضاه، وكيف أنهم بدءوا يتسابقون إلى الموافقة على ترشيح رجل من المهاجرين، وقام أكثر من صحابي من الأنصار يؤيد هذا التوجه.
كل هذا الموقف حصل وسعد بن عبادة رضي الله عنه وأرضاه جالس لا يتكلم، ولاشك أنه كان عنده صراع داخلي عنيف بين رأي الأنصار ورأي المهاجرين، ووجد فجأة أن الأمور تصير في اتجاه ترشيح رجل من المهاجرين، وبرغم هذا لم يعترض ولا بكلمة واحدة إلى هذه اللحظة سعد بن عبادة، ولم يتكلم كلمة واحدة منذ دخول المهاجرين، ومع ذلك فـ أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه الرجل الخبير المحنك كان يرقبه ويشعر بالصراع الذي بداخله، وهو صراع طبيعي جداً، صراع لرجل كان مشرحاً لخلافة الدولة بكاملها منذ ساعة واحدة فقط، فإذا بغيره يرشح.
وهنا أراد الصديق رضي الله عنه أن يلقي بالحجة البينة الظاهرة، والتي لا تبقي شكاً في قلب أحد، والتي تريح في نفس الوقت قلب سعد بن عبادة رضي الله عنه وأرضاه، فقال الصديق رضي الله عنه وأرضاه يخاطب سعد بن عبادة بذاته: لقد علمت يا سعد! أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وأنت قاعد، يعني: هناك حديث للرسول عليه الصلاة والسلام قاله في وجود أبي بكر وفي وجود سعد بن عبادة، وهنا أبو بكر يذكر سعد بن عبادة رضي الله عنهما بالحديث.
وواضح أن سعد بن عبادة رضي الله عنه وأرضاه نسي هذا الحديث، إما لبعد الفترة، وإما لعدم فقه الحديث، وإما للحزن على رسول الله صلى الله عليه وسلم أو للمرض، أو لغيره من الأسباب.
قال الصديق رضي الله عنه وأرضاه: لقد علمت يا سعد! أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وأنت قاعد: (قريش ولاة هذا الأمر، فبر الناس تبع لبرهم، وفاجر الناس تبع لفاجرهم)، وهذا قانون وضعه صلى الله عليه وسلم (قريش ولاة هذا الأمر) قانون صريح جداً، ورغم كل المحادثات والمجادلات والحوارات التي حدثت في السقيفة ومع كل هذا الجدال رد سعد بن عبادة على أبي بكر الصديق بكلمة عجيبة، وفي بساطة غريبة فقال: صدقت، أنتم الأمراء ونحن الوزراء، هكذا في بساطة، فالكلمة الوحيدة التي قالها سعد بن عبادة منذ دخل المهاجرون إلى السقيفة إلى هذه اللحظة هي: صدقت، أنتم الأمراء ونحن الوزراء هكذا قالها في بساطة، وهكذا سعد بن عبادة رأس الأنصار وكبيرهم وزعيمهم والمرشح الأول للخلافة قطع بخلافة قريش دون الأنصار.
هذا الحدث لابد أن نقف أمامه وقفة طويلة؛ لأنه حدث فريد، فتعالوا نحلل هذا الموقف العجيب في التاريخ الإسلامي، ونحاول أن نخرج منه بعض الدروس: أولاً: الحديث الذي ذكره الصديق رضي الله عنه وأرضاه هو تشريع واضح من رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأمر الذي فيه تشريع ليس فيه اجتهاد، وهذا