أولاً: ثباته أمام فتنة المال، وبدأت بها لأنها فتنة عظيمة، فكثير من المؤمنين يثبتون أمام فتن شتى فإذا جاءوا إلى فتنة المال وقعوا فيها، يقول أحد الصحابة: ابتلينا بالضراء فصبرنا، وابتلينا بالسراء فلم نصبر! هكذا يقول الصحابي الجليل، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول -في الحديث الذي رواه الترمذي وقال: حسن صحيح، عن كعب بن عياض رضي الله عنه-: (إن لكل أمة فتنة وفتنة أمتي المال) وإن كان هناك بشر لا يهتز أمام المال غير الأنبياء فهو أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه.
وقد شاهدنا كثيراً من المتقين، وشاهدنا كثيراً من الزاهدين في الدنيا، وسمعنا عن أمثلة عظيمة وعن مواقف مشهودة، لكننا لم نسمع من قبل عن رجل اعتاد أن ينفق كل ماله في سبيل الله ولا يبقي لنفسه ولا لأهله شيئاً، وليس مرة أو مرتين يفعلها ولكنه اعتاد الثبات على هذا الأمر، وقد تحدثنا من قبل في درس سابق عن إنفاقه رضي الله عنه وأرضاه على الدعوة في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم سواء في فترة مكة أو سواء في فترة المدينة، وذكرنا تقدير رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك، لكن نذكر هنا طرفاً سريعاً من ثباته أمام فتنة المال بعد أن تولى الخلافة، فها هو الصديق بعد أن أنفق ماله كله يمتلك مقاليد الحكم في المدينة ويضع يده على بيت المال، وها هي القبائل المرتدة تعود إلى الإسلام بعد عام من القتال المستديم، فيأتي خراجها، وخراجها كثير، وتأتي زكاتها، ويمتلئ بيت المال، ثم ها هي فارس تفتح وها هي الشام كذلك تفتح وتأتي الغنائم وفيرة والكنوز عظيمة، فماذا فعل الصديق رضي الله عنه؟ ما تغير قدر أنملة، وما تبدل شعرة، وما فتن بالدنيا لحظة.
وليس الصديق بالذي يتبدل؛ لقد أعطى الدنيا حجمها فزهد فيها، وأعطى الآخرة حجمها كذلك فعمل لها، لقد سمع من حبيبه وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم حديثاً وضح فيه حجم الدنيا بالنسبة للآخرة، وسمع الحديث الذي رواه الإمام مسلم عن المستورد بن شداد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والله! ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه هذه -وأشار يحيى بن سعيد أحد رواة الحديث بالسبابة- في اليم فلينظر بما ترجع) فما غاب عن ذهنه أبداً هذا المقياس، ومن أجل هذا ما فتن بالدنيا لحظة.
لقد سمع وصية من معلمه ومعلمنا ومرشده ومرشدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضعها نصب عينيه، وكأنها خاصة بـ أبي بكر الصديق، روى الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله تعالى مستخلفكم فيها)، وها هو الصديق قد استخلف فيها الخلافة الكبرى، يقول صلى الله عليه وسلم: (فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء).
أصبح الصديق ذات يوم بعد أن ولي الخلافة وعلى يده أبراد، والبرد: هو الثوب المخطط.
يعني: أخذ أثواباً لبيعها في السوق كعادته حتى بعد أن أصبح خليفة، فلقيه عمر بن الخطاب رضي الله عنه فسأله: أين تريد؟ قال: إلى السوق، قال عمر: تصنع ماذا وقد وليت أمر المسلمين؟ قال: فمن أين أطعم أولادي؟ سبحان الله! يده على بيت المال بكامله لكنه يقول: فمن أين أطعم أولادي؟ فأشار عليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يذهب إلى أبي عبيدة أمين بيت المال ليفرض له قوته وقوت أولاده، فذهب إليه ففرض له، فانظر إلى هذه الشفافية في الضمير والأمانة والنقاء في النفس، فـ الصديق رضي الله عنه وأرضاه ينزل إلى السوق وهو خليفة لكي يتاجر حتى يطعم أولاده! فعف الصديق رضي الله عنه وأرضاه فعفت الرعية في زمانه رضي الله عنه.
وانظروا إلى الصديق وهو على فراش الموت بعد رحلة طويلة من الجهاد المضني انظروا إليه كيف يقول وهو رأس الدولة في ذلك الزمان الدولة التي دكت حصون فارس والروم يقول مخاطباً عائشة رضي الله عنها: أما إنا منذ ولينا أمر المسلمين لم نأكل لهم ديناراً ولا درهماً، ولكنا قد أكلنا من جريش طعامهم في بطوننا -يعني: الطعام البسيط- ولبسنا من خشن ثيابهم على ظهورنا، وليس عندنا من فيء المسلمين قليل ولا كثير إلا هذا العبد الحبشي وهذا البعير الناضح وهذه القطيفة -كساء- فإذا مت فابعثي بهن إلى عمر وابرئي منهن، تقول السيدة عائشة: ففعلت.
فلما وصل الرجل الذي أرسلته السيدة عائشة إلى عمر رضي الله عنه وأرضاه بكى عمر بن الخطاب حتى جعلت دموعه تسيل في الأرض ويقول: رحم الله أبا بكر لقد أتعب من بعده، رحم الله