ثبات الصديق أمام فتنة الرئاسة والمنصب

وتعالوا نرى ثبات الصديق أمام فتنة الرئاسة والمنصب، وفتنة الرئاسة فتنة عظيمة جداً، وابتلاء كبير، فكثير من الناس يعيش حياة التواضع فإذا صعد على منبر الحكم تغير وتبدل وتجبر وتكبر؛ إنها فتنة كبيرة، وهنا كلمة حكيمة جداً للحسن البصري رحمه الله يقول: وآخر ما ينزع من قلوب الصالحين حب الرئاسة.

لكن الصديق نزع من قلبه حب الرئاسة من قديم.

والصديق رضي الله عنه وأرضاه وإن كان يعيش قدراً معيناً من التواضع قبل الخلافة فإن هذا القدر تضاعف أضعافاً مضاعفة بعد الخلافة، ولعلنا لا نبالغ إن قلنا: إن أعظم خلفاء الأرض تواضعاً بعد الأنبياء كان الصديق رضي الله عنه، فوالله! لقد فعل أشياء يحار العقل كيف لبشر أن يتواضع إلى هذه الدرجة؟ ومن المؤكد أنه تعلم من صديقه وحبيبه محمد صلى الله عليه وسلم ما ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف الذي رواه مسلم عن أبي يعلى معقل بن يسار رضي الله عنه وأرضاه قال: (ما من أمير يلي أمور المسلمين ثم لا يجهد لهم وينصح لهم إلا لم يدخل معهم الجنة)، والصديق جاهد للمسلمين ونصح للمسلمين كأشد ما يكون الجهد والنصح.

ولذلك فهو ليس فقط يدخل الجنة معهم بل يسبقهم إليها، وكيف يتكبر الصديق وهو الذي كان حريصاً طيلة حياته على نفي كل مظاهر الكبر والخيلاء من شخصيته وكان يتحرى ذلك حتى في ظاهره؟ روى البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة) هذه الكلمات وقعت في قلب أبي بكر وتحركت النفس المتواضعة تطمئن على تواضعها، فأسرع الصديق رضي الله عنه وأرضاه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (يا رسول الله! إن إزاري يسترخي إلا أن أتعاهده).

أشعر والله! أنه قال هذه الكلمة وهو يرتجف يخشى من حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أثلج صدره وطمأنه ووضح له متى يكون الاسترخاء للإزار منهي عنه فقال: (إنك لست ممن يفعله خيلاء)، وهذه شهادة من رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى: أن الصديق لا يفعل هذا خيلاء، وكان من الممكن أن يقول له: إنك لست متعمداً للإسبال، لكنه يخرج من كل هذا إلى حقيقة تواضع الصديق رضي الله عنه وأرضاه.

وتعالوا نتجول في حياة الصديق كخليفة وكرئيس وكحاكم، ذكرنا بعض المواقف في السابق وذكرنا موقفه مع أسامة بن زيد رضي الله عنهما وهو يودعه إلى حرب الروم في الشمال.

والآن نذكر بعض المواقف الأخرى: موقف عجيب من مواقف الصديق وهو خليفة: كان الصديق رضي الله عنه وأرضاه يقيم بالسنح على مقربة من المدينة، مكان قريب من المدينة، فتعود أن يحلب للضعفاء أغنامهم كرماً منه وذلك أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أبو بكر الصديق هو الوزير الأول لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك كان يحلب للضعفاء أغنامهم، فسمع جارية بعد مبايعته بالخلافة وبعد أن أصبح خليفة تقول: اليوم لا تحلب لنا منائح دارنا، سمعها الصديق رضي الله عنه فقال: بلى، لعمري لأحلبنها لكم، فكان يحلبها وهو خليفة، وربما سأل صاحبتها: يا جارية! أتحبين أن أرغي لك أو أصرح؟ يعني: أجعل اللبن فيه رغوة وإلا بدون رغوة؟ فربما قالت: أرغ، وربما قالت: صرح، فأي ذلك قالته فعل.

وهذا موقف آخر من مواقف الصديق رضي الله عنه أغرب: كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يتعهد عجوزاً كبيرة عمياء في بعض ضواحي المدينة من الليل فيسقي لها ويقوم بأمرها، يعني: أن سيدنا عمر كان يذهب بنفسه ليدبر أمر هذه العجوز العمياء، فكان إذا جاءها وجد غيره قد سبقه إليها فأصلح لها ما أرادت، فجاءها غير مرة لكي لا يسبق إليها فكل مرة يلقى نفسه قد سبق إليها، فرصد عمر هذا الرجل الذي يأتي العجوز العمياء فإذا هو أبو بكر الذي كان يأتيها وهو يومئذ خليفة، فقال عمر: أنت هو لعمري.

وكان أبو بكر من الممكن أن يكلف رجلاً أن يفعل هذه الخدمة، لكنه يشعر بالمسئولية الفردية نحو كل فرد في الأمة، وأيضاً هو يربي نفسه على التواضع لله عز وجل، ويربي نفسه ألا يتكبر حتى على العجوز الكبيرة العمياء.

أخرج البيهقي عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قام يوم جمعة فقال: إذا كان بالغداة فأحضروا صدقات الإبل نقسم، ولا يدخل علينا أحد إلا بإذن، يعني: أ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015