إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم يا مصرف القلوب! صرف قلوبنا إلى طاعتك، اللهم يا مقلب القلوب! ثبت قلوبنا على دينك، اللهم إنا نسألك العافية في الدنيا والآخرة، اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.
وصل اللهم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد: فمع الدرس الخامس من دروس الصديق رضي الله عنه وأرضاه.
ولا أخفي أنني كلما توغلت في سيرة الصديق رضي الله عنه وكلما تشعبت وقرأت ودرست وحللت شعرت أنني أريد أن أعتذر للصديق؛ لأنني ولسنوات طوال لم أعطه حقه الكافي من التبجيل والتعظيم والتكريم، نعم كنت أعرف فضله ومكانته وقدمه الراسخة في الإسلام، لكن ليس بالصورة التي يستحقها بالفعل، بل لعلي لا أخفي أنني أحياناً كنت أعطي مساحة من التكريم أكبر لغيره من الصحابة مثل: عمر بن الخطاب ومثل: علي بن أبي طالب ومثل: حمزة بن عبد المطلب ومثل: أبي عبيدة بن الجراح.
وهذا لاشك خطأ يستحق الاعتذار وقصور يحتاج إلى تفهيم وتوضيح، ولعل هذا القصور في فهم درجة العظمة التي وصل إليها الصديق رضي الله عنه يرجع إلى قصر مدة خلافته رضي الله عنه، لكن على العكس هذه المدة القصيرة التي حكم فيها الصديق تضاف إلى فضائل الصديق رضي الله عنه؛ فإن الأحداث التي تمت في خلافته قد تحتاج إلى عشرات الأعوام لتتم في عهد غيره.
ولعل قصورنا أيضاً عن وضع الصديق رضي الله عنه في مكانته الحقيقية يرجع إلى طبيعته الهادئة الرقيقة اللينة التي تخفيه كثيراً عن الأنظار.
ولعل قصورنا أيضاً في معرفته يرجع إلى قلة الأحاديث التي رواها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وهذا يرجع بالطبع إلى أنه مات سريعاً بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يكن هناك وقت كاف يحدث به عنه، وإلا فهو أعلم الناس بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولعل طول صمته وكثرة تفكيره وحياءه من الكلام كان سبباً في قلة أقواله وخطبه مع أنه كان من أبلغ الصحابة وأحكم الناس، لعل واحداً من هذه الأمور أو أكثر كان سبباً في جهلي للصديق رضي الله عنه، ومع ذلك فكل هذه أعذار لخطأ واضح؛ فحياة الصديق رضي الله عنه وأرضاه ليست مخبأة في أماكن سرية أو صفحات مشفرة، بل حياة الصديق رضي الله عنه وأرضاه مبسوطة في مئات بل آلاف من الكتب، وقد يكون الكثير منها في مكتباتنا وفي بيوتنا، ولكننا تركنا التراب يعلو هذه الكتب ولم نفتش عن أمجادنا ولم ننقب عن كنوزنا، فعذراً يا صديق! وعذراً يا صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم! فلم نوفكم معشار حقكم بعد، وعزاؤنا أننا والله! نحبكم في الله، ونسأل الله عز وجل أن يحبنا كما أحببناكم فيه.
في الدروس الأربعة السابقة تحدثنا عن أربع صفات للصديق رضي الله عنه: حب الرسول صلى الله عليه وسلم، ورقة القلب، والسبق، وإنكار الذات.
وفي هذا الدرس نتحدث عن صفة عجيبة هي أصعب من كل ما سبق حتى أنها أصعب من صفة إنكار الذات والتي ذكرنا في الدرس السابق أنها صفة صعبة وعسيرة، والأصعب في الصفة التي سنتحدث عنها أنها لا تكتسب، بل هي منحة ربانية من الله عز وجل لبعض عباده، ولذلك فإننا لم نضعها في الصفات الأصيلة في شخصية الصديق رضي الله عنه وأرضاه.
فقد ذكرنا أن الصديق تميز بأربع صفات أصيلة فلما تحققت فيه هذه الصفات الأربع منحه الله عز وجل هذه الصفة الخامسة، بمعنى: أن الله عز وجل لما رأى منه حباً جارفاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم قاد إلى تصديق كامل واتباع دقيق، لما اطلع على قلبه فوجده رقيقاً حانياً عطوفاً ووجد طبعه سهلاً محبباً ليناً، ووجد خلقه حسناً رفيعاً عالياً لما علم منه سبقاً إلى الخيرات ومسارعة إلى الحسنات وحسماً وعزماً في كل أمور حياته، لما رأى منه عطاءً ثم عطاءً ثم عطاءً وإنكاراً لذاته في كل خطواته لما رأى منه كل ذلك وغيره أنعم عليه بنعمة عظيمة وهبة جليلة؛ أنعم عليه بنعمة الثبات.
الثبات على كل ما سبق من خير، الثبات على الإسلام، والثبات على الإيمان، والثبات على الطاعة وحسن الخلق، والثبات على العطاء، والثبات أمام الفتن كلها صغيرة كانت أم كبيرة دقيقة كانت أم عظيمة خفية كانت أم معلنة.
والثبات شيء صعب وعسير، فالإنسان قد ينشط في فترة من فترات حياته لكنه سرعان ما يفتر، وقد يقوى في زمان لكنه يضعف في أزمان، روى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن لكل عمل