وأعجب من هذا التوافق في صفة الصدق نوع آخر من التوافق بين الصديقين الحميمين أشرنا إليه من قبل: لما نزل الوحي على الرسول صلى الله عليه وسلم عاد مذعوراً إلى السيدة خديجة رضي الله عنه يرجف فؤاده وهو يقول: (زملوني زملوني) ثم أخبر خديجة رضي الله عنه بالخبر وقال لها: (لقد خشيت على نفسي، فقالت المرأة المؤمنة: كلا والله! لا يخزيك الله أبداً؛ إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق)، هذه هي المبررات التي من أجلها قالت السيدة خديجة: إن الله لن يخزي الرسول صلى الله عليه وسلم أبداً، وهي جميعاً من صفات المروءة والنخوة والنجدة.
احفظ هذا الموقف وتعال انظر ما قاله زيد بن الدغنة سيد قبيلة القارة وهو يسأل أبا بكر عن سبب خروجه من مكة مهاجراً إلى الحبشة، قال أبو بكر: أخرجني قومي فأريد أن أسيح في الأرض وأعبد ربي، قال ابن الدغنة: فإن مثلك يا أبا بكر! لا يخرج.
فما هي المسوغات أيضاً في هذا الموقف؟ استمع إليه وهو يبرر فيقول: إنك تكسب المعدوم، وتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، سبحان الله! إنها نفس الصفات التي ذكرتها السيدة خديجة في صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولم يكن مشهوراً في العرب أن يوصف رجل بهذه الصفات، ولم يوصف بها إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم والصديق رضي الله عنه وأرضاه.
هذا الاتفاق الملحوظ يفسر كثيراً سرعة تلبية الصديق رضي الله عنه وأرضاه لدعوة الإسلام.
ولا نجد شخصاً فيه هذا التوافق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كالذي بين الصاحبين الجليلين، مما يؤكد أن الله عز وجل كما اختار محمداً صلى الله عليه وسلم للرسالة فقد اختار أبا بكر للصحبة.