وهناك توافق آخر في غاية الأهمية بين الصاحبين العظيمين: التوافق في صفة التواضع، والداعية المتكبر لا يصل بدعوته إلى الناس أبداً؛ لأن الناس يكرهون المتكبرين ولا يقبلون أفكارهم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان أشد الخلق تواضعاً، ومع علو قدره ومكانته إلا أنه لم يكن يترفع أبداً على أي إنسان: حراً كان أو عبداً، غنياً كان أو فقيراً، ولذلك كان يصل بدعوته إلى الخلق أجمعين.
لكن إذا كان كذلك فلماذا لم يؤمن كثير من أهل مكة؟ لماذا لم يؤمن مثلاً الوليد بن المغيرة، مع أنه في قياسات هذا الزمن كان عاقلاً حكيماً؟
صلى الله عليه وسلم لأنه كان متكبراً.
والدعوة وصلته بالفعل، ووصلت إلى قلبه، لكن كما قال عز وجل: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل:14] فماذا فعل الوليد؟ قال وقال من معه كما حكى عنهم ربنا في كتابه العزيز: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف:31].
ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن عظيماً فقط، بل هو أعظم الخلق أجمعين، ولكن مقياس العظمة عند هؤلاء مقياس مختل، فالعظمة عندهم لا تكون في خلق ولا في عقيدة، وإنما تكون في وفرة مال، أو في سعة أملاك، أو في سلطان، لهذا الكبر المقيت صرفوا عن آيات الله عز وجل، قال عز وجل: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الأعراف:146].
وأبو بكر رضي الله عنه لم يكن من هذه الشاكلة، بل على العكس تماماً، كان الصديق متواضعاً شديد التواضع، ولم يكن تواضعه رضي الله عنه مختلقاً أو مصطنعاً، بل كان تواضعاً فطرياً أصيلاً في شخصيته، من أجل هذا عندما تأتي تقول لي: ما هي مواقف التواضع في حياة الصديق؟ أقول لك: هذا السؤال في منتهى الصعوبة؛ لأن معناه: أنك تحكي حياة الصديق بكاملها، لكن أنا أختار موقفاً واحداً من حياة الصديق، إنه موقف ينطق بتواضعه الفطري رضي الله عنه وأرضاه، هذا الموقف كان بعد أن تولى الخلافة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا أشق وأصعب.
والإنسان قد يتواضع عندما يفتقر إلى تمكين أو سيادة أو سلطان، لكن أن يتواضع وهو في أعلى مناصب الدولة فهذا هو التواضع الحقيقي الواضح.
خرج الصديق رضي الله عنه يودع جيش أسامة بن زيد رضي الله عنهما المتجه إلى حرب الروم في الشمال.
والصديق حاكم الدولة، ويبلغ من العمر ستين عاماً، وأسامة بن زيد جندي من جنوده، ولم يتجاوز الثامنة عشرة من عمره.
وسن الثامنة عشرة سن من هم في الثانوية العامة، ومع ذلك الصديق الحاكم المسن يخرج يودع الجيش ماشياً على قدميه، وأسامة بن زيد الذي هو شاب يركب على جواده، إنه موقف في منتهى الغرابة، ولافت - جداً - للنظر، وطبعاً هذا الموقف لفت نظر أسامة بن زيد رضي الله عنهما فقال: يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم! والله! لتركبن أو لأنزلن، فقال الصديق المتواضع رضي الله عنه: والله! لا تنزل، ووالله! لا أركب، وما علي أن أغبر قدمي في سبيل الله ساعة.
انظروا التربية الراقية التي على منهج النبوة، إنه يربي نفسه على التواضع، ويربي أسامة بن زيد على الثقة بنفسه، ويربي كل الجنود على الطاعة لهذا الأمير الصغير الشاب، ثم هو يربي كل المؤمنين على حسن التوجه، وإخلاص النية ووضوح الرؤية، ثم هو يمعن في التواضع فيطلب من الأمير الشاب على سبيل الاستئذان طلباً غريباً فيقول: إن رأيت أن تعينني بـ عمر فافعل؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قد جعل عمر بن الخطاب في جيش أسامة تحت إمرة أسامة، والصديق يريد عمر للوزارة، والصديق هو الخليفة، لكنه لا يريد أن يكسر هيبة كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما أنه لا يريد أن يكسر هيبة الأمير الشاب أسامة بن زيد رضي الله عنه وأرضاه، فاستأذنه بأدب ولطف وقال: إن رأيت أن تعينني بـ عمر فافعل، فأذن له أسامة، وعمر بن الخطاب لما كان يرى أسامة كان يقول له: مرحباً بك أيها الأمير؛ لأنه كان أميراً عليه.
هذا هو الصديق المتواضع، ورجل في هذا التواضع لا يمكن أبداً أن ينكر الحق إذا سمعه، وبالذات لو سمعه من أعظم المتواضعين رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هذا التواضع المتبادل بين الداعية والمدعو شرط لا يغفل لنجاح الدعوة.