أحاديث الفرار:
كما يتحدث الشعراء الصعاليك عن مغامراتهم وانتصارهم فيها، وفوزهم على أعدائهم، يتحدثون أيضا عن فرارهم وهربهم، دون أن يجدوا في هذه الأحاديث غضاضة، أو أمرا يدعو إلى الخجل والمداراة. وفيم الخجل ما دام الفرار أمرا طبيعيا من قوم عدائين، أو -بعبارة أخرى- سلاحا من أسلحتهم يضمن لهم النجاة ليعيدوا الكرة من جديد ليحققوا أهدافهم الاجتماعية والاقتصادية؟ فإذا لاحظنا -إلى جانب هذا- أن الفرار فرصة تتيح لهم إظهار تلك الميزة التي يفخرون بها دائما، وهي سرعة العدو، أدركنا سر حرصهم على أحاديث الفرار في شعرهم؛ لأنها أحاديث تتيح لهم مجال الفخر بهذه الميزة.
وقد اشتهر بعض الصعاليك بفرارهم، وبخاصة صعاليك الحجاز ومنطقة جبال السراة، وبالذات صعاليك هذيل التي كانت تنزل في هذه المنطقة، وقد رأينا من قبل1 ما يذكره الأصمعي من كثرة انتشار العدائين في الحجاز والسراة، أولئك الذين كانوا "يعدون على أرجلهم ويختلسون"، وما يذكره من "أن بهذيل وحدها منهم أربعين"، ويصف الرواة حاجزا الأزدي بأنه "كان مع غاراته كثير الفرار"2. ويفرد البحتري في حماسته بابا "فيما قيل في الفرار على الأرجل"3، يروي فيه اثنتي عشرة مقطوعة لثمانية من الشعراء، منها ثماني مقطوعات لأربعة من الصعاليك4، أي أن ثلثي المقطوعات من شعر الصعاليك، ونصف الشعراء من الصعاليك، فإذا لاحظنا أن من هذه المقطوعات الثماني ثلاثا لحاجز وحده5، أدركنا أن الرواة كانوا على حق حين وصفوه بكثرة الفرار، وإذا لاحظنا أيضا أن من المقطوعات الاثنتي عشرة