كانت انطلاقة بابل الكلدانية أشبه بصحوة الموت بالنسبة للعراق القديم، ولم يكن من المنتظر أن تستمر هذه الانطلاقة أمدًا طويلًا على الرغم من حدتها في عصر ماجت الهضاب الإيرانية المجاورة لها خلالة موجًا شديدًا بتحركات قبائل فتية عاتية أصرت على أن تفرض نفسها على عصرها فرضًا وأن تبدأ فيه من حيث انتهى غيرها. فقد أدى نجاح قبائل مانداهور في زعامة الدولة الماذية وتحطيم القوة الآشورية إلى نتيجتين متضادتين: نتيجة مباشرة، وهي تشجيع بقية الماذيين على مواصلة التوسع والدق العنيف على أبواب جيرانهم، ثم نتيجة لاحقة وهي تشجيع قبائل جبلية أخرى على أن تسلك سبيل الماذيين وتستفيد من تجاربهم بكل ما فيها من فشل ونجاح.
ورث الماذيون أملاك الآشوريين الشمالية والشرقية كما أسلفنا، وابتلعوا مناطق أورارتو شيئًا فشيئًا، وامتدوا شمالًا بغرب حتى بلغوا نهر هاليس في آسيا الصغرى، وهناك اصطدمت أطماعهم بدولة ليديا التي جمعت في سياستها وعلومها وحياة ملوكها بين تقاليد الشرق والغرب معًا واتخذت عاصمتها في مدينة سارديس "راجع أيضًا ص308". وتطور التنافس بين الماذيين وبين الليديين بعد فترة إلى صدام مسلح لزمت بابل فيه جانب حلفائها الماذيين، ولكن هذا الصدام توقف بصلح روى المؤرخون الإغريق من أسبابه المباشرة أنه حدث في أحد أيام العام السادس للحرب "وهو ما يوافق يوم 28 مايو عام 585ق. م" أن أظلمت السماء فجأة في واضحه النهار فأجفلت جيوش الفريقين واعتبراها نذيرًا من السماء، فتوقفا عن الحرب، وقيل إن ملكيهما اتفقا على توسيط ملكي بابل وكيليكيا بينهما، ثم انتهى الأمر إلى هدنة أيدها البيتان الحاكمان بالمصاهرة، واعتبرا نهر هاليس حدًّا فاصلًا بينهما. وأضاف الإغريق أن الفيلسوف ثاليس "طاليس" الميليتي أبا العلم الإغريقي كان قد تنبأ لقومه بكسوف الشمس في نفس العام1. وهي المرة الأولى التي تنبأ فيها عالم إغريقي بحدوث ظاهرة فلكية تنبأ صحيحًا.
ولكن لم يطل الأمد بالنهضة الماذية، وأحاط بها بعد وفاة ملكها هواخشير "كياكساريس"، ما أحاط بجيرانها أكثر من مرة. ترف مسرف ترتب على كثرة الأسلاب والمغانم، وطغيان سياسي ترتب على غرور الحكام الذين أسكرتهم نشوة انتصاراتهم المتكررة2، ثم طموح قبلي صدر عن جزء من الدولة للسيطرة على أجزائها الأخرى، وقد صدر في هذه المرة عن إقليم أنشان "في إلام القديمة". وهو إقليم كانت حياة أهله شاقة جافة ويمت حكامه بصلة القرابة أو المصاهرة للبيت المالك الماذي واستطاعوا أن يحتفظوا بمكانتهم إزاءه طوال ثلاث أجيال، ولكنهم ظلوا يعتقدون أنهم أعرق أصالة وأحق بالملك