...
الكتاب الأول: مصر منذ فجر التاريخ حتى نهاية العصور الفرعونية
الفصل الثالث: مصر في فجر تاريخها
كاد يصرفني عن تقديم هذا الفصل عاملان، وهما: أن تفاصيله تعني المتخصصين في الآثار أكثر مما تعني غيرهم، وأن المحصول الحضاري لعصره، عصر فجر التاريخ، ليس غير محصول متواضع بالنسبة إلى ما ألفه العالم عن المظاهر الضخمة للحضارة المصرية في عصورها الفرعونية. ولكن عاودني بعد ذلك إحساس آخر ملح بضرورة كتابته، بناء على دافعين أيضًا، وهما: أن عصره قد امتد أكثر من عشرين قرنا وهذه فترة لا يمكن إغفالها من عمر الحضارة المصرية بحال من الأحوال، وأن آثاره وتطوراته على الرغم من بساطتها كانت هي الأساس الغفل للآثار التاريخية التي أتت بعدها. وللتوفيق بين الأمرين، تكتفي الصفحات التالية بمعالجة الخطوط العريضة في تصوير هذا العصر، أما تفاصيله فيمكن الرجوع إلى ما نشرناه عنها في كتابنا الأول في "حضارة مصر القديمة وآثارها"، وقد شغلت فيه نيفا ومائة وخمسين صفحة1.
وقد مر بنا كيف وضح تعامل الإنسان مع بيئته في عصر بداية الزراعة، أو عصر فجر التاريخ، أكثر مما وضح في العصور السابقة له، وكيف وضح هذا التعامل في أظهر صوره على هيئة تحد بطيء متتابع، تحد بين الزارعين الجدد الذين رغبوا في الانتفاع بما يستطيعون استغلاله من أرضهم الخصبة وفيرة الماء والقادرة على الإنتاج، وبين وحشية هذه الأرض في أغلب أحوالها واحتياجها إلى جهد طويل وتهذيب وسيطرة حتى تؤتى أكلها حسبما يود أهلها2.