في الريف وتعطلت الزراعة، وقال إبوور: "أصبح الرجل يخرج ليحرث وهو بالمجن" "وأفاض إله النيل الماء، ولكن ما من أحد يود أن يحرث من أجل نفسه، بعد أن أصبح الناس جميعهم يقولون: لسنا نعرف ما سوف يتأتى في هذه الدنيا". وتعطلت الصناعة والفنون بدورها، وقال إبوور "أصبح الصناع جميعًا عاطلين، وأفسد أعداء البلاد فنونها" "وأصبح بناة الأهرام فلاحين". وأراد أن يصور سوء الحالة الاقتصادية فقال: "أصبحت العاصمة في خوف من العوز، وأصبح الناس يأكلون الحشائش ويبتلعون بالماء ... ".
لم ينس الرجل طبقته التي انحدر منها، فأخذ يتحدث عن انقلاب أوضاع الطبقات ويقارن بين ما كان وما هو كائن، ولم يكن من الهين عليه بطبيعة الحال أن تزول النعمة من قوم إلى قوم أو من طبقة إلى طبقة، فقال في عبارات قوية اصطبغت بروح الأدب وتعنينا من حيث صياغتها وطرافتها أكثر مما تعنينا من حيث دلالتها على واقع أكيد. قال الحكيم فيما قال: "فارقت النبالة الدنيا وأصبحت ربات البيوت يقلن أنى لنا ما نأكله، وذبلت أجسادهن في الأسمال وهاضت قلوبهن من ذل السؤال"، وقال: "غدا الأثرياء يولولون وغدا المحرومون مسرورين ... وما من أبيض الثوب في هذا الزمان. ودارت الأرض كما تدور عجلة الفخار. وأصبح المواطن يقول ما أشد البلاد وماذا أفعل؟ وأصبح ابن الناس نسيًا منسيًّا وغدا ابن سيدته كابن خادمته". واندار على الطبقة الجديدة فقال في عبارات متفرقة: تجرأت الجواري بأفواههن، وإذا تكلمت سيداتهن ثقل ذلك على الخدم. وأصبح العوام من أرباب الرفاهة، ومن لم يكن منهم يتخذ نعلًا أصبح ذا ثراء عريض، ومن لم يكن يعرف الظل أصبح صاحب ظل ظليل، ومن كان رسولًا أصبح يرسل غيره، ومن كان يتساقط شعره من قلة الدهان أصبح يمتلك قدور المر الغالي، ومن لم يكن له صندوق أصبح صاحب أثاث، ومن كانت ترى وجهها في الماء أصبحت ذات مرآة ...
وكره بعض الناس دنياهم وآثروا الانتحار، سواء لضياع حقوقهم القديمة، أو لأسفهم عما أصاب المعابد والمقابر، أو لأسفهم عما أصاب بلدهم من اضطراب لم يعرفوا علاجه، وعبر أبوور عن رأيهم بقوله "ولي وانقضى ما شهده الأمس، وبقيت الأرض لسوء حظها، ألا ليت ذلك يكون نهاية الناس فلا يحدث حمل ولا ولادة، وتهدأ الأرض من الضجيج ولا يكون هناك متخاصمون"، وقد "أصبح الكبير والصغير يتمنيان الفناء، وأصبح الأطفال يقولون ليت آباءنا لم يهبونا الحياة" و"غصت التماسيح بما أصبحت تقتنصه بعد أن ذهب الناس إليها من تلقاء أنفسهم".
غير أن كل هذه السوءات المبالغ فيها، لم تحرم الثورة من مزاياها ونتائجها الطيبة التي أسلفناها لها "في ص150"، وخلاصتها أنها حركت ضمائر الحكماء إلى الإصلاح، ودعت إلى التفكير فيما ينبغي أن يكون عليه سلوك الحكام، وشجعت على مواجهة الملك بعيوبه، وشجعت على إعادة النظر في العقائد، وأدت إلى نشأة طبقات جديدة تعتز بالعصامية أكثر مما تعتز بالأحساب.