تصلح للاستغلال، وثالثة قاحلة تعز عليها موارد الماء من الأرض ومن السماء على السواء، وأدى هذا التباين الإقليمي والتنوع البيئي في شبه الجزيرة إلى اختلافات ضمنية في معايش واتجاهات سكانها القدامى، البدو منهم والحضر، والجبليين والمزارعين، والشرقيين والغربيين والشماليين والجنوبيين، مع اتساع المسافات الفاصلة بينهم، وكان لذلك بعض الأثر أيضًا في حرمان شبه الجزيرة من الوحدة السياسية الكاملة إلا حين وحد الإسلام بين جماعاتها وأطرافها، ثم حين ظهرت الوحدات والدول الكبيرة في العصر الحديث.

وكان أهم ما تداولته المناقشات التاريخية عن توجيهات بيئة شبه الجزيرة العربية لأهلها، هو دفعها لأغلب قبائلهم القديمة إلى التحركات الداخلية من منطقة إلى أخرى بين كل حين قصير وآخر، ثم دفعها لبعضهم في هجرات كبيرة إلى ما يجاورهم من مناطق الهلال الخصيب بين كل حين طويل وآخر.

وتمثلت دوافع التحركات الداخلية القديمة، فيما هو معروف، تفرق موارد الماء، وتغير مناطق العشب والرعي، وتسابق القبائل، والعشائر إلى استغلال هذه الموارد، والمناطق ومحاولة التحكم فيها كلما استطاعت سبيلًا إلى ذلك، فضلًا عن كثرة المنازعات والحروب الداخلية التي تغذيها الطبيعة البدوية والروح القبلية، واضطرار الجماعات المستضعفة إلى النزوح خلالها عن مواطنها المحلية إلى حيث تبحث عن الأمن والاستقرار ولو بعيدًا عنها. وترتبت على هذه التحركات الداخلية مزايا وعيوب. وتمثلت مزاياها في اعتياد البدوي القديم على حرية السعي والانتقال، وتجدد رغبته في أن تظل مسالك الأرض العربية مسالكه يسعى فيها أنى شاء ويتلمس رزقه فيها حيثما شاء، طالما توفرت له الوسيلة والجرأة وطالما اطمأن إلى مساندة عشيرته وكثرتها. وذلك على حين تمثلت عيوبها في أنها كثيرًا ما شلت أيدي رؤساء القبائل الكبيرة القديمة عن توحيد كلمتهم داخل وحدات سياسية مستقرة واسعة تستطيع أن ترسي مقومات الحضارة الثابتة وتطورها وتنميها، إلا لمرات معدودة ولفترات محدودة، وذلك نتيجة لتباعد مواطن بعض هذه القبائل عن بعض، واختلاف مصالحها الخاصة، وتضارب الحريات التي افترضتها لأنفسها، ثم حرص أوفرها عددًا وبأسًا على توسيع مجالات نفوذها وحرياتها وأرزاقها على حساب غيرها، دون كبير اعتبار منها لفكرة الصالح القومي العام ودون التزام كبير منها بحقوق بقية القبائل الغريبة عنها أو العشائر المستضعفة إزاءها، على الرغم من وحدة الجنس واللغة والديار بين الجميع.

ولم تقتصر مظاهر التحركات الداخلية على المناطق الصحراوية الشمالية في شبه الجزيرة، وإنما امتدت مسبباتها ونتائجها كذلك إلى بعض المناطق الصالحة للاستقرار الطويل في الجنوب العربي، فكثيرًا ما أفضت منازعات أمراء القبائل الجنوبية هناك، وأطماع الدول الجنوبية فيما بينها، بل ومنافسات أقاليم الدولة الواحدة منها، كمنافسات الهمدانيين والريدانيين والسبأيين بعضه لبعض، إلى استهلاك قوى دولهم ودويلاتهم وإمارتهم وتقصير أمدها وتشتيت بعض أهلها. وكثيرًا ما دفعت هذه المنافسات بطونا إلى ترك أمهاتها إلى أطراف الجنوب والرحيل عنها إلى مواطن أخرى شمالية بالحجاز وما وراءه، بل وإلى نجد أحيانًا على الرغم من فقر بيئتها الداخلية عن بيئة الجنوب.

وانشعبت الآراء في تعليل دفع شبه الجزيرة العربية لبعض سكانها في هجرات خارجية كبيرة إلى مناطق الهلال الخصيب في العراق والشام ومصر، إلى ثلاثة:

طور بواسطة نورين ميديا © 2015