هؤلاء الذين كانوا سبب النزول قد كانوا تكلموا بكلمة الإسلام كما في الصحيحين [البخاري "683"، مسلم "1671"] ، وغيرهما [أبو داود "4364"، الترمذي "72"، النسائي "4029"، ابن ماجة "2578"] ، ومجرد هذا الواقع منهم لا يكون ردة ولو سلمنا أنهم صاروا بذلك كفارا مشركين فقد أنزل الله في كتابه العزيز الأمر بقتل المشركين حيث وجدوا وأين يقفو فكان هذا الحكم العام مغنيا عن إدخالهم في زمرة الإسلام فيما شرعه لهم من الأحكام فالمشرك سواء حارب أو لم يحارب مباح الدم ما دام مشركا فليس في حمل الآية على المشركين وتخصيص حد المحاربة بهم إلا التعطيل لفائدتها والمخالفة لما يقتضيه الحق ويقود إليه الإنصاف وقد أقام هذا الحد على المحاربين الصحابة فمن بعدهم إلى هذا الغاية.
وأما ما أبداه الجلال رحمه الله من الفوائد والمفاسد لما اختاره من اختصاص حد المحاربة بالمشركين فتلك الفوائد واندفاع المفاسد لا يقوم رقعها بالخرق على أنها زائفة داحضة ناشئة عن الوسوسة في زحلفة أحكام الله وتبديل ما شرعه.
وأما اشتراط المصنف رحمه الله أن تكون إخافة السبيل في غير المصر فلا وجه له لأن الله سبحانه شرع لنا هذا الحد فأطلقه ولم يقيده ولا ثبت لنا عن رسوله المبين للناس ما نزل إليهم أنه قيده بهذا القيد فمن وجدت منه المحاربة وهي إخافة السبيل بالقتل ونهب المال فهو محارب سواء كان داخل المصر أو خارجه ثم هذا المحارب الذي وقعت منه المحاربة حده هو ما ذكره الله سبحانه من التخيير بين القتل أو الصلب أو قطع اليد والرجل أو نفيهم من الأرض فهذا حد الله الذي شرعه لعباده في كتابه بعبارة في غاية الوضوح والبيان بحيث لا يخفى على العامة فضلا عن أهل العلم فالتوزيع لهذه العقوبات المذكورة في الآية كما ذكره المصنف تقييد لكتاب الله بلا دليل بل بمجرد القال والقيل ولا يلزمنا اجتهاد لمجتهد من الصحابة أو أكثر ما لم يكن إجماعا منهم على أن المروي عن ابن عباس في توزيع العقوبات المذكورة في الآية على الصفة التي ذكرها المصنف لم تكن في شيء من دواوين الإسلام وإنما أخرجه الشافعي من طريق إبراهيم ابن محمد بن أبي يحيى وهو ضعيف لا تقوم بمثله حجة كما هو معروف عند أهل الفن.
قوله: "ويسقط عنه الحدود" الخ.
أقول: ظاهر التقييد بقوله عزوجل: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} [المائدة: 34] ، أنها قيد لحد المحاربة كما يشعر به السياق فلا يجوز للإمام والسلطان وغيرهم أن يقيموا حدود المحاربة على محارب تاب قبل القدرة عليه وأما سائر الحدود فلا دليل على أنها تسقط بالتوبة ولا بالوصول إلى الإمام قبل القدرة بل هي باقية على أصلها لا يسقطها إلا بمسقط وإذا كان هذا في الحدود فكيف بالأموال التي في ذمة المحارب إلا ما كان متعلقا لما تاب عنه من المحاربة فإن ما سفكه فيها من الدماء وأتلفه من الأموال ظاهر التقييد أنه يسقط لأنه قد تاب من قبل أن يقدر عليه فاستحق عدم المؤاخذة بحد المحاربة ولا بما يتعلق به وأما إذا كان المحارب كافرا فهو وإن كان يجري عليه هذا الحد كما يجري على المسلمين لكن إذا تاب من