وهذا يدل على مراقبة المسلمين الدقيقة ومعرفتهم بأحوال المنافقين واليهود، فقد كانت عيون المسلمين يقظة تراقب تحركات اليهود والمنافقين، واجتماعاتهم وأوكارهم، بل كانوا يطلعون فيها على أدقِّ أسرارهم واجتماعاتهم وما يدور فيها من حبك المؤامرات, وابتكار أساليب التثبيط, واختلاق الأسباب الكاذبة لإقناع الناس بعدم الخروج للقتال، وقد كان علاج رسول الله لدعاة الفتنة وأوكارها حازما حاسما، إذ أمر بحرق البيت على من فيه من المنافقين، وأرسل من أصحابه من ينفذه, ونفذ بحزم, وهذا منهج نبوي كريم يتعلم منه كل مسئول في كل زمان ومكان كيف يقف من دعاة الفتنة ومراكز الشائعات المضللة التي تلحق الضرر بالأفراد والمجتمعات والدول؛ لأن التردد في مثل هذه الأمور يعرض الأمن والأمان إلى الخطر وينذر بزوالها (?).
لقد تحدث القرآن الكريم عن موقف المنافقين قبل الغزوة وأثناءها وبعدها, ومما جاء من حديث القرآن الكريم عن موقف المنافقين قبل غزوة تبوك ما يتضمن استئذانهم، وتخلفهم عن الخروج، وكان ممن تخلف عبد الله بن أبيّ ابن سلول, وقد تحدث القرآن عنهم فقال تعالى: (لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاَّتَّبَعُوكَ وَلَكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) [التوبة: 42]. فقد بين -سبحانه وتعالى- موقف المنافقين وأنهم تخلفوا بسبب بعد المسافة وشدتها، وأنه لو كان الذي دعوتهم إليه يا محمد عرضًا من أعراض الدنيا ونعيمها وكان السفر سهلا لاتبعوك في الخروج، ولكنهم تخلفوا ولم يخرجوا, فالآية تشرح وتوضح ملابسات موقفهم قبل الخروج إلى الغزوة، وأسباب هذا الموقف, ثم حكى -سبحانه- ما سيقوله هؤلاء المنافقون بعد عودة المؤمنين من هذه الغزوة: (وَسَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ). كان نزول هذه الآية قبل رجوعه صلى الله عليه وسلم من تبوك. والمعنى: وسيحلف هؤلاء المنافقون بالله -كذبًا وزورًا- قائلين: لو استطعنا -أيها المؤمنون- أن نخرج معكم للجهاد في تبوك لخرجنا، فإننا لم نتخلف عن الخروج معكم إلا مضطرين فقد كانت لنا أعذارنا القاهرة التي حملتنا على التخلف (?).
وقوله -سبحانه-: (يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ). قال ابن عاشور: أي يحلفون مهلكين أنفسهم -أي موقعينها في الهلك, والهلك: الفناء والموت- ويطلق على الأضرار الجسمية وهو المناسب هنا أي يتسببون في ضر أنفسهم بالأيمان الكاذبة وهو ضر الدنيا وعذاب الآخرة, وفي هذه الآية دلالة على أن تعمد اليمين الفاجرة