السمة الخامسة البارزة في السيرة النبوية هي: الوسطية في منهجه صلى الله عليه وسلم: ولا بد أن نتحدث عن الوسطية بعد حديثنا عن الشمول؛ فالذي يدرس السيرة النبوية ويتجول بين صفحاتها يدرك تماماً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تعامل مع قضايا حياته المختلفة بتوازن رائع، فليس معنى أنه كان يجد قرة عينه في الصلاة أن يهمل بيته، بل كان يأمر الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم الذين يبالغون في العبادة إلى درجة إهمال شئون حياتهم الأخرى، يأمرهم أن يقللوا من العبادة، وأن يأخذوا من وقت الصلاة والصيام ويعطوا زوجاتهم وأولادهم، نعم كان يحب الإنفاق في سبيل الله ويحض عليه، لكنه ما كان يترك أصحابه ينفقون كل أموالهم في سبيل الله دون أن يتركوا شيئاً لأولادهم، بل أمرهم أن يتركوا ورثتهم أغنياء، ولم يقبل منهم صلى الله عليه وسلم إنفاق المال كله في سبيل إلا في ظروف معينة، ومن أفراد بأعيانهم كـ الصديق رضي الله عنه في قصة الهجرة وتبوك.
وليس معنى أنه كان يحب الموت في سبيل الله صلى الله عليه وسلم حتى قال: (لوددت أن أقتل في سبيل الله ثم أحيا ثم أقتل ثم أحيا ثم أقتل ثم أحيا ثم أقتل) ليس معنى هذا أن يلقي بنفسه في المهالك دون اكتراث أبداً، بل رأيناه صلى الله عليه وسلم يلبس درعين من حديد، ويضع الخطة المناسبة للمعركة، ويرسل العيون، ويأخذ بجوانب الحيطة والحذر، ويؤمن ظهره، ويحمي جيوشه وشعبه، هكذا رأيناه في دروس السيرة النبوية صلى الله عليه وسلم.
حياة متوازنة راقية لا إفراط ولا تفريط، لا تشدد وتطرف، وكذلك لا تسيب وتنازل، حياة متوازنة عبر عنها ربنا سبحانه وتعالى بقوله وهو يصف هذه الأمة العظيمة: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة:143].