البعد الأخلاقي للتشريعات الإسلامية

السمة السادسة، وقد رأيناها واضحة في السيرة النبوية: البعد الأخلاقي العظيم في كل التشريعات الإسلامية، قال الرسول عليه الصلاة والسلام فيما رواه البيهقي عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه وهو يصف بعثته صلى الله عليه وسلم، ويقصرها صلى الله عليه وسلم على إتمام مكارم الأخلاق، يقول: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق).

عند النظر إلى كل شعائر الإسلام تجد أنها في المقام الأول تسمو بالأخلاق، الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، الصوم ينهى عن قول الزور والشقاق والعراك والتشاحن، الصدقة تطهر النفس وتوطد العلاقات الطيبة في المجتمع، وهكذا في كل التشريعات.

في أحداث السيرة النبوية رأينا أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان حريصاً على هذا الجانب الأخلاقي في كل مواقفه وفي كل معاملاته صلى الله عليه وسلم.

يكفي فقط أن نذكر مجالين يتعجب الكثير في زماننا الآن من ارتباط الأخلاق بهما: أما المجال الأول فهو: المجال السياسي، ألف الناس في زماننا الآن وقبل ذلك تصوير السياسة على أنها خبث وكيد وخيانة وغدر ونفاق وعنف، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام أثبت لنا عكس ذلك تماماً، رأيناه في مكة وفي المدينة يحاور ويفاوض، ولكنه ما كذب ولا غدر ولا خان صلى الله عليه وسلم، بل إنه لم تخرج منه كلمة سوء واحدة يندم عليها صلى الله عليه وسلم، لم يكن فاحشاً ولا متفحشاً حتى مع أعتى الأعداء، بل كان واسع الصدر صلى الله عليه وسلم، كان مبتسماً هادئاً حيياً، كان خلوقاً صلى الله عليه وسلم في سياسته الداخلية مع شعبه وحكومته وأعوانه وأنصاره بل ومع معارضيه، بل حتى المنافقين معلومي النفاق بالوحي كان يحسن صحبتهم ويعفو عن سبابهم أو قطيعتهم صلى الله عليه وسلم.

وكان خلوقاً كذلك في سياسته الخارجية مع رسل وأمراء وملوك العالم، حتى من حاربه منهم فإنه لم يخرج أبداً عن حدود اللياقة والأدب وحسن الخلق صلى الله عليه وسلم، وراجع -إذا أحببت- محاوراته صلى الله عليه وسلم مع كفار مكة أمثال عتبة بن ربيعة والوليد بن المغيرة ووفود قريش المتتالية.

أيضاً انظر إلى مباحثاته صلى الله عليه وسلم مع بني عامر وبني شيبان وغيرهما، وراجع بيعتي العقبة الأولى والثانية، راجع المعاهدات والمحاورات مع اليهود ومع مشركي المدينة، راجع صلح الحديبية، راجع استقباله صلى الله عليه وسلم للوفود المختلفة على مدار السنوات المتعاقبة، راجع الرسائل إلى ملوك العالم، والخطب السياسية والمكاتبات إلى العمال والأمراء، ولا نبالغ إذا قلنا: إن علينا أن نراجع حياته بكاملها لأنه ما خلت لحظة من لحظات حياته، ولا مرحلة من المراحل التي مر بها في سياسته من أخلاق رفيعة وخلال حميدة في كل المواقف.

هذه كانت أخلاقه في الجانب السياسي من حياته صلى الله عليه وسلم، والكلام يستغربه سياسيو العصر الحديث ومحللو العالم ومفكروه، لكن هذا واقع رأيناه في السيرة النبوية.

المجال الآخر -وهو صعب أن تجد زعيماً من زعماء العالم إلا من رحم الله عز وجل- يفلح في التحلي بالأخلاق في الجانب العسكري والواقع أن الضوابط الأخلاقية التي وضعها صلى الله عليه وسلم في حروبه من المستحيل فعلاً الإلمام بها في هذه العجالة، فهي تحتاج إلى بحث مفصل ودراسة متأنية، ويكفي أن نذكر أنه كان دائماً يجعل الحروب آخر الحلول، لم يكن أبداً -كما يشاع عنه في بعض الكتابات أو الرسوم- متعطشاً للدماء كما نرى الكثير الآن من قادة وعسكري العالم، لكن كان كثير العفو صلى الله عليه وسلم عن عدوه في حالة تسليم العدو ورضوخه، وراجعوا فتح مكة، راجعوا موقعة حنين وغيرهما، وكان يحرم صلى الله عليه وسلم الخيانة في الحرب، أو نقض العهود، أو الهجوم دون إنذار، وكان يحرم قتل النساء والأطفال وكبار السن ورجال الدين غير المحاربين، وكان يكرم الأسرى ويوصي بهم، وكان يحرم قطع النخيل والأشجار إلا بضرورة عسكرية، وكان لا يهدم الديار ولا يخرب الأراضي صلى الله عليه وسلم، كان لا يعيث في الأرض فساداً بما اعتدنا أن نراه في الحروب غير الإسلامية سواء في القديم أو الحديث، دعوة الإسلام دعوة أخلاق في المقام الأول، والذي يدرس أحداث السيرة سيجد أن هذه السمة بارزة لا تخفى على أي محلل، ولن يجهلها أي منصف، وصدق الله عز وجل عندما وصف حبيبنا صلى الله عليه وسلم بقوله: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] إذاً: هذه هي السمة السادسة من السمات البارزة في السيرة النبوية.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015