كان من عمالقة الإيمان أيضاً في ذلك اليوم: أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وهو من عمالقة الإيمان من أول يوم آمن فيه إلى آخر يوم في حياته رضي الله عنه وأرضاه؛ أتى بأربعة آلاف درهم، لكن قد يقول قائل: هذا المبلغ يعتبر بسيطاً بالنسبة لعدد الإبل التي قدمها عثمان بن عفان رضي الله عنه.
أقول: انتبه، فنحن نتكلم على أعظم شخصية في تاريخ الأرض بعد الأنبياء، هذه الأربعة آلاف هي كل ما يملك، فهل يستطيع أحد أن يعمل مثل هذا؟ هل يمكن أن تتخيل ذلك مع نفسك ولو مرة واحدة في حياتك؟ صعب جداً، ويكاد يكون مستحيلاً، مع مراعاة أن أبا بكر الصديق فعل ذلك أكثر من مرة في حياته؛ في بداية الدعوة، وفي وسط الدعوة، وفي الهجرة وفي تجهيز الجيوش بصفة مستمرة حتى وصل إلى هذا الأمر في تبوك، وكان خليفة للمسلمين بعد ذلك، ومات وليس في بيته دينار رضي الله عنه وأرضاه.
كل حياته إنفاق في سبيل الله، كل الذي عنده أتى به، أتى بكل ثروته لنصرة الإسلام والمسلمين، من أجل ذلك فـ الصديق درجته مختلفة عن درجة بقية المسلمين، لا لشيء إلا ليقينه العميق فيما عند الله عز وجل، لا لمنصب ولا لعرق ولا لنسب؛ بل لدرجة الإيمان والصدق الذي في قلبه.
وقد سأله الرسول عليه الصلاة والسلام سؤالاً واضحاً فقال: (هل أبقيت لأهلك شيئاً؟ فقال -في يقين عجيب-: أبقيت لهم الله ورسوله)، سبحان الله! هل يضيع الله عز وجل من استودعناه إياه؟ هل يترك ربنا سبحانه وتعالى من تركناه له؟ هذا مستحيل، وكلنا يؤمن بذلك، لكن إيمان بعضنا إيمان نظري، ليس له تطبيق في واقع حياتنا، أما أبو بكر فكل معنى آمن به كان له انعكاس مباشر على حياته، وعلى حياة المسلمين، وعلى واقعه وعلى واقع المسلمين.
هذا هو الفهم الذي تصلح به الأمم.