أما عثمان رضي الله عنه وأرضاه فكان هذا اليوم يومه؛ ما إن فتح الرسول عليه الصلاة والسلام باب الجهاد بالمال حتى كان أسرع وأسبق الناس إلى الدخول فيه رضي الله عنه، قام في تجرد واضح، وفي تضحية عميقة يقول: علي مائة من الإبل بأحلاسها وأقتابها.
يعني: بكامل عدتها.
وكنا قد ذكرنا في الدروس الماضية نماذج ممن كان يطلب مائة من الإبل ليثبت على الإسلام، والآن نتكلم على شخص يدفع مائة من الإبل في سبيل الله بنفس راضية مطمئنة، هذا هو مقياس الدنيا في عين عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه، في لحظة يدفع بمائة من الإبل بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله.
فـ عثمان ليس مكلفاً بدفع كل هذا في إعداد الجيش الإسلامي، لكنه يشعر أن القضية فعلاً قضيته، والهم همه، لا يضيره في ذلك أن قعد آخرون، المهم عنده أن يعمل لله عز وجل، لم ينتظر أن يسبقه أحد أو أن يشجعه أحد، ليست النائحة كالمستأجرة، فهو يعيش القضية، فلما رأى الرسول عليه الصلاة والسلام عثمان بن عفان يدفع مائة من الإبل سر سروراً عظيماً صلى الله عليه وسلم حتى ظهر ذلك على وجهه، وانبسطت أساريره صلى الله عليه وسلم، ثم فتح باب الجهاد من جديد.
فيقوم آخر ليبذل من ماله فيحدث العجب، لقد قام عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه مرة ثانية يزايد على نفسه هو، فقد دفع في الأولى، وكذلك يدفع في الثانية، لا ينتظر أحداً من المسلمين ليساعده في عملية الإنفاق على جيش العسرة رضي الله عنه وأرضاه، قام وقال: علي مائة أخرى من الإبل بأحلاسها وأقتابها! تفشل كثير من الأمم في الخروج من أزماتها لافتقادها إلى رجل مثل عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه.
ويرقب الرسول عليه الصلاة والسلام ذلك بسعادة لا تخفى على أحد، إلى الدرجة التي قال فيها كلمة عجيبة جداً، قال صلى الله عليه وسلم: (ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم)، أي: أن الحسنات التي حصلها عثمان رضي الله عنه وأرضاه في هذا اليوم لا تضر معها معصية أبداً، وهذا الكلام ليس استنتاجاً، بل هو نص كلام الرسول عليه الصلاة والسلام، فقد ينجو الإنسان طيلة حياته بموقف واحد وقفه لله عز وجل.
(ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم) ليست هناك سيئة إن فعل عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه أي سيئة بعد ذلك، لن يكون هناك تأثير على ميزانه يوم القيامة.
وليست هذه دعوة لفعل السيئات، فالرسول عليه الصلاة والسلام يقول الكلمة وهو يعرف في حق من يقولها، يقولها في حق عثمان بن عفان ذي النورين رضي الله عنه وأرضاه.
وعثمان بن عفان بعد أن سمع هذه الكلمة العجيبة التي علق بها صلى الله عليه وسلم على فعله العظيم لم يكتف بهذا العطاء، بل قام للمرة الثالثة في بساطة وهو يقول: علي مائة ثالثة من الإبل بأحلاسها وأقتابها، ماذا نرى؟! إنه إنفاق غير طبيعي، لا يرى للدنيا أي حجم في عينه رضي الله عنه وأرضاه.
والرسول صلى الله عليه وسلم يسمع هذا الكلام ويقول: (اللهم اغفر لـ عثمان ما أقبل وما أدبر، وما أخفى وما أعلن، وما أسر وما جهر)، بل إن البعض يصل بنفقة عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه في ذلك اليوم إلى تسعمائة من الإبل بأحلاسها وأقتابها! ولم يكن عطاؤه من الإبل فقط رضي الله عنه، بل عاد إلى بيته وأتى بألف من الدنانير نثرها في حجر الرسول صلى الله عليه وسلم حتى رفع الرسول عليه الصلاة والسلام يده إلى السماء وقال: (اللهم ارض عن عثمان؛ فإني عنه راض).
سبحان الله! ماذا يساوي هذا؟! إن مال الدنيا بأكمله لا يساوي هذا الدعاء العظيم من الحبيب صلى الله عليه وسلم.
لم تكن عظمة عثمان رضي الله عنه وأرضاه فقط في أنه أنفق أو أعطى، لكن العظمة الحقيقية في أنه سبق، لم ينتظر تشجيعاً من أحد، بل هو الذي شجع الآخرين، لم يقل: كل الناس لم يتحركوا، بل هو الذي تقدم وسبق؛ من أجل أن يقلده الناس بعد ذلك.
هذا بيت القصيد في بناء الأمم؛ أن يحمل أناس الهم على أكتافهم ويتحركوا به حتى وإن قعدت الأمة بأكملها، كل من أعطى بعد عثمان بن عفان رضي الله عنه تقليداً لفعله واتباعاً لهديه هو في ميزان حسنات عثمان بن عفان، وهذا أمر يعجز عن حسابه العقل.
روى مسلم عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه أن رسول صلى الله عليه وسلم قال: (من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء).
لماذا يعمل عثمان بن عفان هذا كله وينفق تسعمائة بعير، ويأتي بألف دينار، ويتحمل كل هذه المسئولية وحده رضي الله عنه وأرضاه؟ إن قلبه وعينيه على الجنة: (ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة)، يشتري الجنة