الحكمة الثالثة من وراء نزول الرسالة في أرض مكة وجزيرة العرب: نظام الحكم في أرض مكة.
لم يكن الحكم في مكة حكماً مركزياً، ولم يكن في مكة ثمة حاكم معين، بل مجلس يضم عشرة أشخاص يمثلون عشر قبائل، حكم ائتلافي يشبه الحكم الديمقراطي، وقد أفادت كثرة موازين القوى في مكة الدعوة، ووجدت إضافة إلى ذلك بعض القوانين الوضعية في أرض مكة استفاد منها رسول الله صلى الله عليه وسلم، دون أن يتنازل عن شيء من دينه ولا من عقيدته، ليعلمنا أن المسلم الذكي الواعي الفاهم يستطيع أن يستفيد من هذه القوانين طالما يحافظ على دينه.
وهذا يرد على كثير من غير الفاهمين لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، ويقولون: إننا لا نحتكم مطلقاً لقانون وضعي، لكن هذا الكلام ليس بصحيح على إطلاقه، فنحن لا نحتكم إلى قانون وضعي إذا تعارض مع شرع الله عز وجل، ونستفيد مما ليس له تعارض بالشرع.
فقانون الجوار كان في مكة، ولو كان الحكم مركزياً مثل فارس أو الروم ما تمت هذه الإجارة، والرسول عليه الصلاة والسلام استفاد من هذا القانون، ودخل في جوار المطعم بن عدي المشرك؛ لكي يحميه من أهل مكة، ودخل أبو بكر الصديق رضي الله عنه في جوار ابن الدغنة المشرك، ودخل عثمان بن مظعون رضي الله عنه في جوار الوليد بن المغيرة المشرك.
هكذا استفادوا من قانون الجوار الوضعي في مكة، لكن بدون تفريط في العقيدة أو الدين.
كذلك هناك قانون قبلي أيضاً كان في مكة استفاد منه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو حماية بني هاشم له، وبالذات في أثناء حياة أبي طالب مع كون معظمهم على الشرك، أبو طالب بالذات كان مشركاً، وبقي إلى آخر لحظة من لحظات حياته مشركاً، ومع ذلك الرسول عليه الصلاة والسلام قبل حمايته.
كذلك قانون الأحلاف، قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم بفكرة الأحلاف مع المشركين، إذا كان الحلف يهدف إلى أمر نبيل ولا يتعارض مع الدين الإسلامي، يقول الرسول عليه الصلاة والسلام: (شهدت وأنا غلام -أي: قبل البعثة- حلفاً مع عمومتي المطيبين) كان حلفاً بين بني هاشم وبني تيم وزهرة على نصرة المظلوم.
يقول: (فما أحب أن لي به حمر النعم وأني نكثته، ولو دعيت به اليوم في الإسلام لأجبت).
وأكثر من هذا ما كان في صلح الحديبية، فقد حالف رسول الله صلى الله عليه وسلم قبيلة خزاعة وكانت مشركة.
وكان للمسلمين دولة وكيان معروف وقوي.
ووقع صلى الله عليه وسلم معاهدة مع قريش، وبهذه المعاهدة حالف خزاعة ووضع يده في يدها، وما تنازل عن أي قانون إسلامي أو أي عرف إسلامي، لكنه تعاون مع خزاعة ضد قريش.
إذاً: الرسول صلى الله عليه وسلم استفاد من تعدد موازين القوى، ومن قوانين المجتمع الوضعية ما دامت لا تتعارض مع الدين والشرع والعقيدة.
وهذه الحكمة ما كانت لتظهر لو نزلت الرسالة في بلد فيه حكم ديكتاتوري مثل: فارس أو الروم أو غيرهما من الممالك الموجودة في ذلك الوقت.