الحكمة الثانية من نزول الرسالة في جزيرة العرب: أن هذه المنطقة ليس لها تاريخ أو واقع عسكري ملموس، لم يكن هناك ما يعرف بالجيوش العربية، بل كانوا قبائل متفرقة متشرذمة، لا يعرفون إلا حرب الإغارات والسطو على بعضهم البعض، وأعدادهم قليلة، وسلاحهم قديم، وخططهم بدائية، فلما جاء الإسلام إلى هذه البقعة من الأرض حصل انقلاب هائل بمعنى الكلمة، إذا بالرجال البدو البسطاء الذين كانوا يعيشون في هذا المكان يصبحون قادة عسكريين على أعلى المستويات، لا مثيل لهم في التاريخ كله، وإذا بالقبائل المتفرقة تكون جيشاً واحداً مترابطاً، وإذا بالبدو الرحل يحاورون ويناورون ويفاوضون، ويفتحون البلاد، ويدعون العباد إلى عبادة رب العباد، اقرءوا تاريخ الفتوح الإسلامية الإعجازية، راجعوا التاريخ من أول نزول آدم وإلى الآن لا تجد لهم نظير، ولا للفتوحات الإسلامية مثيل.
في غضون سنوات قلائل تسقط فارس الدولة الرهيبة العظيمة.
في غضون ثلاث عشرة سنة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، تسقط فارس، التي هي إيران والعراق وأوزبكستان وتركمانستان وطاجكستان وكازاخستان وأفغانستان وباكستان، نصف الأرض تقريباً تسقط في ثلاث عشرة سنة على أيدي هؤلاء البدو الرحل.
كذلك في نفس الوقت على الجهة الغربية من العالم تسقط معظم ممتلكات الدولة الرومانية في آسيا وإفريقيا، معجزة عسكرية هائلة بكل المقاييس، من المستحيل أن تكون من فعل البشر! ماذا كان موقف العرب من كسرى فارس قبل الإسلام؟ كان العرب مثل أصغر دولة نامية في الأرض في هذا الوقت بالنسبة لأعظم قوة في الأرض في زمانهم دولة فارس ودولة الروم، والعربي إذا أتى إيوان كسرى يقف على بعد خمسة عشر متراً منه، وكان يعتبر ذلك فخراً أبد الدهر فـ المغيرة بن شعبة رضي الله عنه وأرضاه من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان في جاهليته يفخر على غيره بأنه دخل إيوان كسرى، فهذا يشبه عندما تأتي بشاب من دولة نامية ليقابل رئيس دولة عظمى.
وكان الفرس يتصدقون على العرب بالقمح من شدة المجاعات التي كانت تقع في أرض العرب؛ لذا لما ذهبت الجيوش الإسلامية لفتح فارس تعجب كسرى من العرب، كيف أتوا كي يفتحوا بلاده بينما هو يرى أنه من مضيعة الوقت أن يحاربهم؟ وقال: أنا أعرض عليكم عرضاً مغرياً جداً -في نظره-، سأعطي ثوباً لكل جندي ودرهم.
هذا العرض الذي عرضه كسرى فارس على الجيوش الإسلامية، وأما القائد الإسلامي فسيغريه جداً ويعطيه ثوبين ومائة درهم كان هذا الرقم مهولاً جداً، وهذه كانت نظرة كسرى فارس ودولة فارس كلها للعرب، وهذه النظرة كانت واقعية بالنسبة لتاريخ العرب وتاريخ فارس، وتذكروا معي مصعب بن عمير رضي الله عنه وأرضاه لما جيء به من غزوة أحد ليدفن لم يجدوا ما يغطونه به، فعلاً كان الصحابة بسطاء جداً؛ لذا فإن كسرى فارس يقول: أعطيكم ثوباً لكل جندي، وهو يرى أنه يسترهم به.
وحذيفة بن اليمان رضي الله عنه وأرضاه لما ذهب ليأتي بخبر القوم في الأحزاب كان عليه ملابس زوجته؛ لأن الجو كان بارداً.
هذا كان وضع الصحابة الذين فتحوا بلاد فارس الرهيبة وبلاد الروم الهائلة.
والعرب لما كشروا عن أنيابهم في الأحزاب بالكاد جمعوا عشرة آلاف، وهذا كان رقماً مهولاً عندهم، فكيف يمكن لهؤلاء أن يفكروا في غزو بلاد فارس، مع علمهم أن جيش فارس لا يقل عن اثنين مليون جندي! فجوة هائلة في التسليح والإعداد! بالإضافة إلى أن الحرب في عقر دار الفارسيين في وسط بلاد الفرس في العراق وإيران وغيرهما من البلاد على بعد مئات الأميال من المدد.
حقاً إنها معجزة عسكرية بكل المقاييس!! أين كان خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وأبو عبيدة بن الجراح والقعقاع بن عمرو التميمي والبراء بن مالك وأبو موسى الأشعري والزبير بن العوام ومحمد بن مسلمة والمقداد بن عمرو؟ الكوادر العظام في الإسلام أين كانوا قبل الإسلام؟ أين كان هؤلاء العباقرة العسكريون قبل إسلامهم؟ خالد بن الوليد في أُحد أمام خمسين من الرماة وهو في ثلاثة آلاف لم يحرك ساكناً، لولا خطأ الرماة بترك الجبل فيما بعد وخالفوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزلوا من فوق الجبل، هذا هو خالد، ما الذي جعله يدخل بلاد فارس بثمانية عشر ألف جندي مسلم ويكسر بهم مائة وعشرين ألفاً ولا يغلب في موقعة؟ كيف ينتصر المسلمون باثنين وثلاثين ألفاً في القادسية على ربع مليون فارسي؟ كيف ينتصر المسلمون بتسعة وثلاثين ألفاً على مائتي ألف رومي في اليرموك؟ كيف فتحوا بلاد الأندلس باثني عشر ألفاً وأمامهم مائة ألف إسباني صليبي في عقر دار الأسبان؟ ألغاز لا يمكن أن تفهم إلا بحقيقة واحدة لا ثاني لها: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنّ