الحكمة الرابعة من نزول الرسالة في جزيرة العرب: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتحدث اللغة العربية، وهي أشرف اللغات، وبها نزل القرآن الكريم، وهي لغة أهل الجنة، والقرآن كلام الله عز وجل، ولم ينزله الله عز وجل بهذه اللغة لأهل الجزيرة فقط، بل للعالم كله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد زمانه وإلى يوم القيامة.
وقد نزل القرآن بهذه اللغة في وقت كانت فيه لغات كثيرة موجودة في الأرض، واستحدث غيرها من اللغات على مر التاريخ، وستكون لغات أخرى إلى يوم القيامة، ومع ذلك أراد الله عز وجل لهذا القرآن وهذا المنهج أن يكون باللغة العربية؛ لحكمة يعلمها سبحانه وتعالى.
وهو سبحانه وتعالى يعلم أن اللغة العربية قد تكون أقل انتشاراً من غيرها من اللغات في زمان من الأزمان، مثل زماننا هذا فإن اللغة العربية أقل انتشاراً من الإنجليزية أو الصينية أو الفرنسية، ومع علم الله عز وجل بذلك الأمر إلا أنه أنزل القرآن باللغة العربية، لحكمة كاملة لا يعلمها إلا هو سبحانه وتعالى، وأنا في اعتقادي أن سبب ذلك هو أن اللغة العربية أثرى لغة، فالشيء الواحد له أكثر من اسم في هذه اللغة العظيمة، فلك أن تعبر عنه بعشرات الكلمات، فمثلاً: العسل له ثمانين اسماً، والثعلب له مائتا اسم، والأسد له خمسمائة، والجمل له ألف، والسيف له ألف، والداهية لما توصف واحداً بأنه داهية في أربع أو ثلاث كلمات تفسر معنى الداهية، شيء مهول لا يتخيله عقل، هذه هي اللغة العربية.
وأيضاً الكلمة الواحدة في اللغة العربية تكون بنفس الحروف، إلا أن تغيير حركات التشكيل يعطيها أكثر من معنى، كل هذا أعطى اللغة إمكانيات هائلة، تنزل الآية بكلمات قليلة محدودة ومع ذلك تحمل من المعاني ما يصعب حصره.
كلما نظر المفسر في الآية استخرج منها معاني جديدة مختلفة عن التي استخرجها غيره، قد ينظر المفسر الواحد في الآية أكثر من مرة، وفي كل مرة يخرج بمعنى جديد، وتمر الأزمان والأزمان ثم يأتي مفسرون آخرون ليستخرجوا معاني جديدة.
وصدق علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه عندما وصف القرآن بأنه لا يخلق من كثرة الرد، أي: لا يبلى من كثرة الترديد والقراءة.
أيضاً كلمات الرسول صلى الله عليه وسلم كانت باللغة العربية، وآتاه الله عز وجل جوامع الكلم، كان يقول الحديث في كلمات قليلة جداً، فإذا به يحوي أحكاماً لا تنتهي.
فإذا كان ربنا سبحانه وتعالى اختار أن القرآن ينزل باللغة العربية فيلزم الناس أن يتكلموا العربية، بل ووصلوا فيها إلى أعظم درجات الإعجاز البشري، إتقان عجيب جداً للغة، يتصرفون فيها كما يريدون، وأصبحت ألسنتهم سهلة لينة طيعة بها.
وكان أمر الشعر عند العرب عجيباً، فالمعلقات الهائلة التي كانت تعلق على الكعبة من الشعر، فالشعر يقال في كل الظروف، الفرحان يقول الشعر، والحزين يقول الشعر، ويقال في السلم، وفي الحرب، حتى قبل الموت والسيف على رقبة الشخص وهو يقول الشعر؛ لأنه كان على لسانه مثل الكلام عندنا.
كذلك المعارضة بالشعر تأليف فوري، واحد يقول بيت شعر والثاني يرد عليه ببيت على نفس الوزن والقافية وفي نفس اللحظة، ولا يفكر كثيراً، هذه كانت كفاءتهم بالنسبة للغة العربية.
إذاً: من عوامل نجاح الدعوة الإسلامية في الجزيرة العربية، إتقان أهل هذه البقاع اللغة العربية، لماذا إتقان اللغة العربية كان سبباً في نجاح الدعوة؟ أولاً: كان أدعى لإيمان الناس بكلام الله عز وجل وبإدراك الإعجاز الإلهي في كل آية وفي كل سورة، يقول الله سبحانه وتعالى: {وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأَعْجَمِينَ * فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ} [الشعراء:198 - 199].
فالعرب المتقنون للغة أدركوا منذ أول لحظة سمعوا فيها القرآن أن هذا الكلام معجز، لذا لم ينتقدوا آية واحدة من آيات القرآن الكريم، ولم يعارضوا القرآن بمثله أبداً، وما اجتمعوا لكي يعارضوا القرآن الكريم، لم يجتمع شعراؤهم وأدباؤهم وحكماؤهم ليؤلفوا آية واحدة مع تحدي القرآن لهم.
فالقرآن يتحداهم أن يأتوا بسورة أو عشر سور أو بمثل القرآن كله وهم لا يستطيعون، كرجل تقول له: اذهب وخذ هذا البيت، وهو يذهب أصلاً ولا يحاول؛ لأن هذا شيء بالنسبة له معجزة، نعم، أنا قوي وأقدر على أخذ كذا أو كذا أو كذا، لكن ذلك البيت مستحيل، هم كانوا هكذا بالضبط، يعلمون أن القرآن الكريم، وهذه الكلمات والآيات والسور من المستحيل أن تعارض.
فمعرفة العربية كانت أدعى لفهم الإعجاز العجيب في كتاب الله عز وجل.
وهذا الأمر ليس مقصوراً فقط على الإعجاز اللغوي، بل حتى أي نوع من أنواع الإعجاز في القرآن الكريم يحتاج إلى فهم دقيق للغة، بل حتى الإعجاز العلمي الذي نستخرجه من القرآن الكريم لابد له من فقه للغة، ومعرفة معنى الكلمات، ومعنى الآيات، والمقصود من وراء كل كلمة.
ثم أيضاً لابد أن تعلم أن الذي يقرأ ترجمة ا