أول الخطوات إنشاء مسجد قباء، فقد ظل صلى الله عليه وسلم في قباء أسبوعين تقريباً، وانتقل بعد ذلك إلى المدينة المنورة، وسنرجع إلى النقطة هذه بعد قليل.
في المدينة المنورة استُقبل الرسول صلى الله عليه وسلم من الأنصار استقبالاً كبيراً جداً ومشرفاً مرة أخرى، بعد أسبوعين من انتقاله من قباء، وتسابق الأنصار جميعاً بشتى قبائلهم على استقبال الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان كل واحد من الأنصار يريد أن تأتي ناقته صلى الله عليه وسلم إلى بيته، فكل فرد من الأنصار يريد أن يدخل النبي صلى الله عليه وسلم عنده، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم قال كلمة أصبحت منهجاً لحياة الصحابة بعد ذلك، قال صلى الله عليه وسلم: (دعوها فإنها مأمورة).
أي: دعوا الناقة فإنها مأمورة من رب العالمين سبحانه وتعالى، وأنا أيضاً مأمور، والمؤمنون جميعاً مأمورون: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا} [الأحزاب:36] فالرسول صلى الله عليه وسلم لا يستطيع أن يختار إذا كان الله هو الذي يختار له أمراً من الأمور، وكأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: قد أجلس في بيت فلان أو بيت فلان، أو بيت أقربائي من بني النجار، أو بيت صحابي كبير، أو أحد ممن أحبهم، لكن إذا أمر الله عز وجل فلا مجال للهوى ولا مجال للاختيار، فالذي يأمر الناقة هو رب العالمين سبحانه وتعالى، وعلينا جميعاً أن نسمع ونطيع؛ هكذا علمهم بوضوح، وكان من الممكن أن ينزل الوحي ليقول للرسول عليه الصلاة والسلام: انزل في بيت فلان، أو ضع المسجد في هذا المكان الفلاني، لكن هذا المشهد العلني أمام الجميع، والجميع يتسابق لاستقباله صلى الله عليه وسلم، وهو يخرج نفسه تماماً من الاختيار ويجعل الاختيار الكامل لرب العالمين، هذا المشهد زرع معنى مهماً جداً، سيظل معنا طول فترة المدينة المنورة، وما أكثر التشريعات والأحكام التي نزلت في المدينة المنورة، وقد لا يفقهها عامة الناس، وقد لا يدركون الحكمة من وراء الأمر، ومع ذلك عليهم أن يسمعوا ويطيعوا لله رب العالمين، وبركت الناقة في مكان معين في المدينة المنورة، وفي هذا المكان قرر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبني المسجد النبوي.
فأول شيء فعله صلى الله عليه وسلم في قباء هو بناء المسجد، وأول شيء فعله في المدينة المنورة بناء المسجد النبوي، وفعله هذا ليس مصادفة أو إشارة عابرة، بل هو منهج أصيل.
فلا قيام لأمة إسلامية بغير تفعيل لدور المسجد؛ فالمساجد في هذا الوقت كثيرة، لكن كثيراً منها غير مُفعّل كمسجد، مخطئ من ظن أن المسجد لم ينشأ إلا لأداء الصلوات الخمس فقط، بل في بعض الدول الإسلامية يُقفل المسجد مباشرة بعد الصلاة، وكأن دوره الوحيد هو الصلاة فقط.
إن دور المسجد في بناء الأمة الإسلامية أعمق من ذلك بكثير، وليست أهمية المسجد في حجمه أو شكله أو زخرفته أو قص الشريط لفتحه، هذه كلها شكليات فارغة لا قيمة لها، والرسول صلى الله عليه وسلم كان ينهى عن هذه الشكليات، وكان ينهى عن المبالغة في تزيين المساجد، وكان يقول: (لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس بالمساجد) هذا الحديث في مسند أحمد بن حنبل رحمه الله وفي سنن أبي داود والنسائي وابن ماجه وصححه ابن حبان عن أنس رضي الله عنه وأرضاه، ولفظ ابن خزيمة: (يأتي على الناس زمان يتباهون بالمساجد ثم لا يعمرونها إلا قليلاً)، تجد المساجد ضخمة وكبيرة جداً وتجد فيها صفاً أو صفين! وقال صلى الله عليه وسلم: (ما أُمرت بتشييد المساجد) والتشييد: رفع البناء زيادة عن الحاجة، وقال في رواية أبي داود: (لتزخرفنها كما زخرفت اليهود والنصارى)، نهتم بالشكليات كالرخام والزخارف وما إلى ذلك، ولا نهتم بالتربية داخل المسجد.
والمسجد في حياة الأمة له أدوار في غاية الأهمية، من ذلك: الحفاظ على إيمان المسلمين، فالأساس الرئيس الذي اجتهد صلى الله عليه وسلم في زرعه في صحابته هو الإيمان بالله عز وجل، والمسجد كما يظهر من اسمه هو مكان للسجود لرب العالمين سبحانه وتعالى، للرضوخ الكامل له، والطاعة المطلقة لكل أوامره.
فمن الصعب جداً أن يجلس المسلمون في بيت الله عز وجل؛ ليأخذوا قراراً أو يعتمدوا رأياً، ثم هم يخالفون ما أراده الله عز وجل منهم.
والمسجد مكان يحفظ على المسلمين دينهم؛ ولهذا كانت حياة المسلمين تدور في مجملها حول محور المسجد، فالصلاة في المسجد لا ينبغي التخلف عنها إلا في ظروف ضيّقة ومحدودة؛ لأن المسجد مكان لالتقاء المسلمين وتقوية للأواصر بينهم، فعدم الحضور لصلاة الجماعة في المسجد عمل لا يقوي الأواصر بين المسلمين، فأنت إذا كنت تحافظ على الصلاة خم