وتبرز من جانب آخر، من جانب إطاقة محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لتلقيها وهو يعلم مَنْ ربَّه هذا، قائل هذه الكلمة؟ ما عظمته؟ ما دلالة كلماته؟ ما مداها؟ ما صداها؟ ويعلم من هو إلى جانب هذه العظمة المطلقة، التى يدرك هو منها ما لا يدركه أحد من العالمين.
إن إطاقة محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لتلقى هذه الكلمة من هذا المصدر، وهو ثابت، لا ينسحق تحت ضغطها الهائل - مع أنها ثناء - ولا تتأرجح شخصيته تحت وقعها وتضطرب .. تلقيه لها في طمأنينة وفي تماسك وفي توازن هو ذاته دليل على عظمة شخصيته فوق كل دليل.
ولقد رويت عن عظمة خلقه في السيرة، وعلى لسان أصحابه روايات منوعة كثيرة، وكان واقع سيرته أعظم شهادة من كل ما روى عنه. ولكن هذه الكلمة أعظم بدلالتها من كل شيء آخر، أعظم بصدورها عن العلى الكبير، وأعلم بتلقى محمد لها وهو يعلم من هو العلى الكبير، وبقائه بعدها راسخاً ثابتاً مطمئناً، لا يتَكَبَّر على العباد، ولا ينفتح، ولا يتعاظم.
لقد كان - وهو بشر - يُثني على أحد أصحابه، فيهتز كيان صاحبه هذا من وقع هذا الثناء العظيم، وهو بشر ويعلم أصحابه أنه بشر، فأما هو فيتلقى هذه الكلمة من الله، وهو يعلم من هو الله، ثم يتماسك ويصطبر ويتلقى ويسير إنه أمر فوق كل تصور وفوق كل تقدير.
وما كان إلا محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعظمة نفسه هذه من يحمل هذه الرسالة الأخيرة بكل عظمتها الكونية الكبرى فيكون كفؤاً لها كما يكون صورة حية منها.
إن هذه الرسالة من الكمال والجمال، والعظمة والشمول، والصدق والحق بحيث لا يحملها إلا الرجل الذي يُثني عليه الله هذا الثناء فتطيقه شخصيته، ثم يتلقى بعد ذلك عتاب ربه له بذات التماسك، وذات الطمأنينة، ويعلن ذلك كما يعلن تلك لا يكتم من هذه شيئًا، ولا تلك، وهو في كلتا الحالتين النبي الكريم، والعبد الطائع والمُبَلِّغ الأمين.