عملًا بالبينتين بقدر الإمكان صيانة لهما عن الإلغاء؛ لأن العمل بالدليل واجب بالقدر الممكن، ويؤيد ذلك: أن رجلين اختصما إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بعير، وأقام كل واحد منهما البينة أنه له، فقضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- به بينهما نصفين.
وقالوا أيضًا: إذا كان تاريخ أحدهما أسبق من الآخر، فالأسبق أولى؛ لأن كلا من الخارجين ينطبق عليه وصف المدعي، فكانت بينتهما مسموعتين مقبولتين قضاءً، فترجح إحداهما بأسبقية التاريخ؛ لأنها أثبتت الملك في وقت لم تعارضه فيه البينة الأخرى، فيؤمر صاحب اليد بتسليم الشيء المتنازع عليه إلى المقضي له، إلى أن يثبت الآخر انتقال الملكية إليه بطريق ما.
وقالوا أيضًا: إن أرخ أحدهما ولم يؤرخ الآخر، ففي هذه الحالة يقضى بينهما نصفين، كما ذهب إلى ذلك أبو حنيفة، ولا عبرة للتاريخ.
ثم ننتقل الآن إلى الاحتمال الثالث: وهو تعارض الدعويين في ملك المطلق بين ذوي اليد، يعني: الشيء في يد شخصين معًا، وأقام كل منهما بينة أنه حق خالص له، وتعارضت البينتان، نقول: إذا كانت هناك دار يحوزها اثنان، أي: تحت يدهما، فادعاها كل منهما، وأقام كل منهما بينة على ملكيته لها منفردًا.
اختلف الفقهاء في ذلك فقال الشافعية على الصحيح عندهم: تهاترت البينتان، أي: تساقطتا وبطلتا؛ لتعارضهما، كتعارض الدليلين دون مرجح لأحدهما، فيقضى ببقاء الدار في يدهما كما كانت، إذ ليس أحدهما أولى بها من الآخر.
وقال الحنابلة: إذا تنازع رجلان في عين في أيديهما، وأقام كل واحد منهما بينة، وتساوت البينتان، تعارضتا، وقسمت العين بينهما نصفين، لما روى أبو موسى -رضي الله عنه-: ((أن رجلين اختصما إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بعير فأقام كل واحد منهما شاهدين، فقضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالبعير بينهما نصفين)).