وقد ضعف روح الاجتهاد في هذا العصر بسبب ظهور المذاهب الأربعة، وأصبح لزامًا على القاضي أن يُصدر أحكامه، وفق أحد هذه المذاهب، كما اختلف القضاة في الولايات باختلاف هذه المذاهب، وأصبح المذهب الشارع في العراق مذهب أبي حنيفة النعمان، وفي الشام، والمغرب، والأندلس كان القضاة يصدرون أحكامهم وفق مذهب الإمام مالك، وفي مصر وفق مذهب الإمام الشافعي، فإذا حدث تنازعٌ بين متقاضيين على غير المذهب السائد في بلد من البلاد أناب القاضي عنه من القضاة من يدين بعقائد مذهب المتخاصمين، واستمرت هذه المذاهب الأربعة إلى وقت طويل مصدر القضاء والأحكام، ومن ثم أُطلق على العصر العباسي عصر أئمة المذاهب، وهناك مذاهب أخرى غير المذاهب الأربعة لها قضاؤها الخاص، فكان القاضي يتبع المذهب، ومنها الزيدية في اليمن، والإمامية والاثنا عشرية في فارس والعراق، والإمامية السبعية أو الإسماعيلية في غير ذلك على أن رغبة الناس في التقليد والحكم بما يوافق المذهب الذي يتبعه القاضي أو المفتي إنما ظهرت بظهور أبي الحسن الأشعري وتفكيره في الرجوع إلى مذهب أهل السنة، ويجب ألا يعزب عن أذهاننا في هذا المُقام أن مذاهب أهل السُّنة الأربعة -الحنفي، والمالكي، والشافعي، والحنبلي- كانت مصدر التشريع في هذا العصر، وأنه لم يتقلد القضاة إلا السنيون، وكان القضاة في الدولة العباسية ينيبون عن قاضي القضاة، وهو أشبه بوزير العدل الآن، ويقيم في حاضرة الدولة، وقد كان القاضي أبو يوسف صاحب أبي حنيفة أول من تلقب هذا اللقب في عهد هارون الرشيد، واستمر هذا العصر العباسي الثاني، وقد اتسعت سلطة القاضي حتى أصبح ينظر في القضايا المدنية، وفي الدعوى والأوقاف، وتنصيب الأولياء، وكثيرًا ما تضاف إليه الشروط، والمظالم، والقصاص، والحسبة، ودار الضرب -أي: ضرب النقود- وبيت المال.