لكن هذه الأدلة التي استدل بها أصحاب الرأي الثاني -القائلون بأنه لا يجب نصب الإمام مطلقًا- يُرد عليهم فيها:
فهم يقولون -كما قلنا في الدليل الأول- أن نصب الإمام يثير الفتن بين الناس، لكن نقول لهم: إن حال الناس عند إرادة نصب إمام لا تخلو من واحدٍ من اثنين: إما الاتفاق على شخص معين يرونه راجحًا غيره؛ لصفاتٍ انفرد بها عن سائر من ينافسونه في هذا المنصب، وإما أن يقع الاختلاف بينهم. فأمّا الحال الأولى -وهي حال اتفاقهم على شخص الإمام- فلا مجال للادعاء بأن ذلك مثير للفتن بين الناس، بل هو من وسائل إخماد الفتن، وأما الحال الأخرى -وهي حال اختلافهم في تعيين شخص الإمام- فلم يترك الشارعُ الحكيمُ الأمرَ بدون ضوابط تكون هي المرجع في فض هذا الخلاف، وإنما نقول: إنه في هذه الحال يجب على أهل الحل والعقد في الأمة أن يقدِّموا للإمامة أعلم المشرحين لها، فإن تساويا في العلم فيجب تقديم الأورع، فإن تساويا فيجب تقديم الأسن -أي الأكبر في السن- وكل ذلك ممّا تندفع به الفتنة والخلافة. فهذا الرد يتبيّن لنا منه أن ما استدلّ به أصحاب الرأي الثاني القائلون بعدم وجوب نصب الإمام، لا مجال لهم في هذا الدليل، وأن دليلهم ساقط؛ فلا يعتدّ به.
وأما قولهم -أي القائلون بعدم وجوب نصب الِإمام-: إن دين الناس وطباعهم مما يحثّهم على رعاية مصالحهم الدينية والدنيوية. فنقول: إن هذا وإن كان ممكنًا عقلًا إلا أنه ممتنع عادة، وليس أدلّ على ذلك من انتشار الفتنة والاختلاف بين الناس عند موت السلاطين والحكام، ودعوى انتظام أحوال البُوادي والعُربان دعوى غير مسلمة؛ إذ أننا نراهم كالذئاب الشاردة والأسود الضارية، لا يُبقي بعضهم على بعض. فهذا أيضًا دليل ساقط للذين قالوا بعدم وجوب نصب الإمام؛ لأن قولهم: أن طبائع الناس تحملهم على رعاية مصالحهم الدينية والدنيوية.