كذلك إذا لم نجد عدلًا، ولم تتحقق العدالة في إنسانٍ ليكون قاضيًا، فما العمل في هذه الحالة? هل نمتنع عن تعيين القاضي، وتتعطل مصالح الناس، ولا يفصل في الخصومات بين الناس، أم أننا نختار أقلهم فسادًًا؟ ونختار أمثل الموجودين؟
إن السياسة الشرعية هنا تظهر وتقول نأخذ أمثل الموجودين، إذا لم تتحقق الشروط في إنسانٍ؛ فنأخذ من يتوفر فيه أكثر هذه الشروط، من أجل ماذا؟ من أجل مصالح الناس، من أجل أن تسير الحياة، من أجل أن لا تتعطل وظيفة القضاء في المجتمع المسلم، لأن القضاء مهم للغاية، ولا نتصور مجتمعًا ليس فيه قضاء يفصل في منازعات الناس.
إذن السياسة الشرعية تتدخل هنا وتقول: نختار الأمثل فالأمثل، سواء بالنسبة إلى الشهادة، أو سواء بالنسبة للقاضي؛ حتى لا تتعطل مصالح الناس، وربما هذا كان معلومًًا، أو كان يستشفه علماء الأحناف الذين لم يشترطوا في القاضي أن يكون مجتهدًا -يعني: نحن لو نظرنا إلى الاجتهاد: هل هو شرط في القاضي، أم لا؟ والله وجدنا جمهور الفقهاء يشترطون في القاضي أن يكون مجتهدًا -يعني: وصل إلى درجة الاجتهاد، لكن الجماعة الأحناف لم يشترطوا ذلك، وجوزوا القضاء للقاضي المقلد الذي يأخذ بمذهبٍ معين.
هذا أيضًًا كأنه نوع من السياسة الشرعية من الجماعة الأحناف؛ ولذلك نصل إلى درجة؛ وهو أنه لا بد من وجود قاضٍ، لا بد من وجود شاهدٍ على الرغم من عدم تحقق الشروط، والذي يقول بذلك إنما هو السياسة الشرعية، السياسة الشرعية التي تقصد في النهاية إلى تحقيق مصالح الناس، وعدم تعطيل باب القضاء في المجتمع المسلم.
من الأدلة أيضًًا على اعتبار السياسة الشرعية أن أحكام السياسة الشرعية ترجع في جملتها إلى قاعدة التيسير، ورفع الحرج عن الناس، ترجع في جملتها، وفي عمومها إلى قاعدة التيسير، ورفع الحرج عن الناس، ومبدأ الحكم بالعدل، والتواصي بالخير، وأن أمر المسلمين بينهم شورى يديرونه بما يحقق مصالحهم، ويكفل سعادتهم، هذه المبادئ محكمة، ومقررة، دل على الاعتداء بها الكتاب، والسنة.