هناك قاعدة معروفة في الشريعة، وهي قاعدة مقررة وراسخة لم يتم التفصيل فيها، وهي: ترغيب الشرع في مخالفة الكفار، والتأكيد على ذلك في أبواب كثيرة جداً من العبادات أو العادات.
والمقصود: النهي عن التشبه بالكفار فيما هو من خصائصهم، لكن الكفار يأكلون ونحن نأكل، وهم يركبون السيارات ونحن نركب، أليس هذا تشبهاً بالكفار؟! نقول: لا، إلا فيما يختص بلباس الكفار، مثل القسيس الذي يلبس الثياب المعروفة التي تختص بالكفار، فإذا لبسها المسلم ففي هذه الحالة يقع في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من تشبه بقوم فهو منهم)، وقوله عليه الصلاة والسلام: (ليس منا من عمل بسنة غيرنا).
فهذه القاعدة لها أدلة عظيمة وكثيرة أيضاً، لكن الدليل المباشر في هذه القضية هو ربط قضية تشبه الكفار بحلق اللحية، يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (خالفوا المشركين: حفوا الشوارب وأوفوا اللحى).
وذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم المجوس، فقال: (إنهم يوفرون سبالهم ويحلقون لحالهم فخالفوهم).
يقول الحافظ ابن حجر: فإنهم كانوا يقصون لحاهم، ومنهم من كان يحلقها.
معنى ذلك: أن المجوس الذين أُمرنا بمخالفتهم كانوا طرفين: منهم من يحلقها، ومنهم من يقصرها ويقصها، فكيف تكون مخالفتهم؟ تكون بالإعفاء والتوفير، كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وفي حديث أبو أمامة، أن بعض مشيخة الأنصار قالوا: (يا رسول الله! إن أهل الكتاب يقصون عثانينهم) والعثانين: اللحى، والسبال: الشوارب، وهو لم يقل: يحلقون.
بل قال: يقصون.
(يا رسول الله! إن أهل الكتاب يقصون عثانينهم، ويوفرون سبالهم، فقال صلى الله عليه وسلم: كفوا سبالكم، ووفروا عثانينكم، وخالفوا أهل الكتاب).
وفي حديث أبي هريرة مرفوعاً: (إن أهل الشرك يعفون سبائلهم ويحفون لحاهم، فخالفوهم: اعفوا اللحى، واحفوا الشوارب).
والتشبه في الظاهر يعكس ما في القلب والباطن من والمحبة، ولذلك نرى من أحب قوماً أُولع بالتشبه بهم في مظهرهم وملبسهم، فإنك ترى بعض الفنانين -ولو كان من أفسق الفساق أو من لاعبي الكرة أو شيء من هذا- يخترع تخليعة معينة في ملابسه أو هيئته أو شعره، فتجد من ينقادون وراءه انقياداً كلياً، وينظرون إلى هذا بعين الاستحسان والإقرار، ويغفلون عن أن الأولى بالمسلم أن يربط نفسه بمن جعله الله عز وجل مثله الأعلى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21].
فمن تشبه بالكفار في حلق اللحى، فهذا يعني أنه استحسن بقلبه ما عليه هؤلاء الناس، وأنه لا يستحسن -بل يستقبح- ما كان عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وجميع أئمة المسلمين وعامتهم في كل العصور، حتى أتى علينا هذا الزمان الذي فُتح علينا فيه باب الفتن، ولا سيما من اليهود والنصارى، كما أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يعد المسلمون يحسّون بصدى قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم).
فإن رسول الله محمد عليه الصلاة والسلام كانت له لحية عظيمة وجميلة، وكذلك الصحابة والسلف، والأئمة، ولم يوجد منهم من حلق لحيته في حياته مرة واحدة، بل إن بعض الأمراء ممن لم يكونوا متفقهين في الدين كانوا إذا أرادوا أن يؤدبوا أحداً من الرعية لخطأ ارتكبه، عاقبوه بحلق لحيته، ثم يركبونه على دابة؛ ليشهروا به بين الناس؛ فإن من الإهانة ومن العقوبة أن تُحلق لحيته، ويركب على دابة، ويطوفون به بين الناس وفي الأسواق، تعييراً له بهذا الهيئة المزرية.
فالشاهد: أن هذا كان تعييراً عند الناس.
وقال بعض العلماء: لا يجوز التعزير بحلق اللحية.
ونهى العلماء عن أن يعزر الإمام أحداً من الرعية بحلق لحيته؛ لأن هذا حرام.
وهناك طوائف من اليهود يتميزون جداً بزيهم الباطل، فلا يمكن أن تجد بينهم رجلاً حالقاً للحيته أو ليس في وجهه لحية، إلا الأمرد الصغير الذي لم تنبت لحيته، لكنك لا ترى أبداً يهودياً من هذه الطوائف يحلق لحيته وإن كانوا يوفرون سبالهم! فالمخالفة ليست في مجمل الأمر نفسه، بل في تفصيل هذا الأمر، فالقساوسة -مثلاً- يعفون لحاهم، واليهود يعفون لحاهم، والمسلمون يعفون لحاهم، لكن المخالفة تأتي في بعض الجزئيات والتفاصيل، وهو فيما يتعلق بقص الشارب، فهذا وجه المخالفة، وليست المخالفة في حلق اللحية كما قد يفهمه البعض.