مَوْضُوعُ بَحْثِنَا) فَقَدْ ذَهَبَ طَوَائِفٌ مِنْ حَشْوِيَّةِ الفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الوُجُوبِ، عُزِيَ ذَلِكَ إِلَى ابْنِ سُرَيْجٍ ... أَمَّا الوَاقِفِيَّةُ فَيُطْرَدُونَ [مَذَاهِبَهُمْ] فِي الوَقْفِ [فِي هَذِهِ الصُّوَرَةِ أَظْهَرُ]، وَأَمَّا أَصْحَابُ النَّدْبِ فَقَدْ يَصِيرُونَ إِلَيْهِ، وَهُوَ رَدِيءٌ مُزَيَّفٌ».
ثم قال: «فَالمُخْتَارُ إِذَنْ أَنَّ فِعْلَهُ - صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لاَ يَدُلُّ بِعَيْنِهِ، وَلَكِنْ يُثَبِتُ عِنْدَنَا وُجُوبَ حَمْلِهِ عَلَى نَفْيِ الحَرَجِ فِيهِ عَنْ الأُمَّةِ، وَمُسْتَنَدُ هَذَا الاخْتِيَارِ إِلَى عِلْمِنَا أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللهِ - صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَوْ اخْتَلَفُوا فِي حَظْرٍ أَوْ إِبَاحَةٍ فَنَقَلَ النَّاقِلِ فِي مَوْضِعِ اخْتِلاَفِهِمْ فِعْلاً عَنْ المُصْطَفَىَ - صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَفَهِمُوا مِنْهُ أَنَّهُ لاَ حَرَجَ عَلَىَ الأُمَّةِ فِي فِعْلِهِ. وُجَاحِدُ هَذَا جَاهِلٌ بِمَسَالِكِ النَّقْلِ فَضْلاً عَنْ المَعْنَى وَاللَّفْظِ» (?) ثم قال: «وَالذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ جَمَاهِيرُ الأُصُولِيِّينَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا رَأَىَ مُكَلَّفًا يَفْعَلُ فِعْلاً، أَوْ يَقُولُ قَوْلاً، فَقَرَّرَهُ عَلَيْهِ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ كَانَ ذَلِكَ شَرْعًا مِنْهُ فِي رَفْعِ الحَرَجِ فِيمَا رَآهُ» (?) وقال الشاطبى: «جُمْهُورُ الأُصُولِيِّينَ يَرَوْنَ أَنَّ الفِعْلَ مِنَ الرَّسُولِ - صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدُلُّ عَلَىَ مُطْلَقِ الإِذْنِ الذِي يَشْمَلُ الوُجُوبَ وَالنَّدْبَ وَالإِبَاحَةَ، مَا لَمْ يُوجَدْ دَلِيلٌ عَلَىَ تَعْيِينِ وَاحِدٍ مِنْهَا، وَكَوْنُ الفِعْلِ صَادِرًا عَنْ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلامُ - بِوَصْفِهِ بَشَرًا كَالأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالنَّوْمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأُمُورِ الجِبِلِيَّةِ قَرِينَةً عَلَىَ أَنَّ الفِعْلَ يُفِيدُ الإِبَاحَةَ، لاَ الوُجُوبَ وَلاَ النَّدْبَ» (?).
هذه النصوص سُقْنَاهَا لِنُحَدِّدَ المُرَادَ من قضيتنا [السُنَّةُ كُلُّهُا تَشْرِيعٌ] وَقَدْ بَيَنَّا أَنَّ المُرَادَ من السُنَّةِ أقوال النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأفعاله وتقريراته، وَأَنَّ المُرَادَ من التشريع إثبات حُكْمٍ شَرْعِيٍّ، ولو الإباحة، فأصبح المدلول: أقوال النبى - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأفعاله وتقريراته كلها تثبت حُكْمًا شَرْعِيًّا.
يؤكد هذا المعنى الإمام ابن تيمية - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - فيقول: «فَكُلُّ مَا قَالَهُ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ النُّبُوَّةِ، وَأَقَرَّ عَلَيْهِ، وَلَمْ يُنْسَخْ فَهُوَ تَشْرِيعٌ، لَكِنَّ التَّشْرِيعَ يَتَضَمَّنُ الإِيجَابَ وَالتَّحْرِيمَ وَالإِبَاحَةَ، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ مِنْ المَنَافِعِ فِي الطِّبِّ. فَإِنَّهُ يَتَضَمَّنُ إبَاحَةَ [ذَلِكَ] الدَّوَاءِ وَالانْتِفَاعَ بِهِ فَهُوَ شَرْعٌ لإِبَاحَتِهِ، وَقَدْ يَكُونُ شَرْعًا لاسْتِحْبَابِهِ ... وَالمَقْصُودُ: أَنَّ جَمِيعَ أَقْوَالِهِ يُسْتَفَادُ مِنْهَا شَرْعٌ» (?).
وَيُصَرِّحُ بهذه القضية بوضوح عُمْدَةُ المُحَقِّقِينَ الأُصُولِيِّينَ الأستاذ الدكتور عبد الغني عبد الخالق (?) إذ يقول - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -: «فَكُلُّ مَا تَلَفَّظَ بِهِ رَسُولُ اللهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا عَدَا القُرْآنِ - أَوْ ظَهَرَ مِنْهُ، مِنْ ابْتِدَاءِ رِسَالَتِهِ إِلَى نِهَايَةِ حَيَاتِهِ، فَهُوَ مِنْ سُنَّتِهِ، سَوَاءٌ أَثَبَتَ حُكْمًا