فإذن، إِبَاحَةُ الْمُبَاحِ مَثَلاً لاَ تُوجِبُ دُخُولَهُ بِإِطْلاَقٍ تَحْتَ اخْتِيَارِ المُكَلَّفِ، إِلاَّ مِنْ حَيْثُ كَانَ قَضَاءً مِنَ الشَّارِعِ، وَإِذْ ذَاكَ يَكُونُ اخْتِيَارُهُ تَابِعًا لِوَضْعِ الشَّارِعِ، وَغَرَضُهُ مَأْخُوذًا مِنْ تَحْتِ الإِذْنِ الشَّرْعِيِّ» (?).
فالإباحة على ما سبق حكم شرعي، نقل الآمدي اتفاق المسلمين على ذلك وَبَيَّنَ أنه لم يخالف في ذلك إلاَّ بعض المعتزلة (?).
وموضوعنا أخص من ذلك الحكم العام، موضوعنا: هَلْ فِعْلُ النَّبِىِّ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ قَوْلُهُ أَوْ تَقْرِيرُهُ لِفِعْلٍ مِنَ الأَفْعَالِ يُعْطَى حُكْمًا شَرْعِيًّا؟ أقل ما يقال عنه: إنه رفع الحرج عن فعله؟ أو لا يعطى هذا الحكم؟.
«أَكَلَ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - القِثَّاءَ بِالرُّطَبِ» (?)، هل يفيد هذا إباحة أكل القثاء بالرطب أو لا يفيد؟ هل يفيد هذا جواز الجمع بين لونين من الطعام أو لا يجيز؟ لو سألنا المخالف: ما الحكم الشرعى لأكل القثاء بالرطب؟ هل هو حلال جائز؟ أو حرام ممنوع؟ ماذا يقول؟ لا مناص له من أنْ يقول: حلال جائز، فإذا قلنا له: ما دليلك؟ قال: فعله النبى - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
واذا سألنا المُخَالِفَ: ما الذي يدل عليه فعل الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لفعل من الأفعال؟ لا مناص له من أَنْ يقول: يدل على مطلق الإذن الذي يشمل الوجوب والندب والإباحة ما لم يوجد دليل على تعيين واحد منها. إلى هذا ذهب جمهور الأُصُولِيِّينَ، وقال بعضهم: يفيد الوجوب إلاَّ إذا وجدت قرينة مانعة من الوجوب، وقال بعضهم: يفيد الاستحباب إلاَّ إذا وجدت قرينة مُعَيَّنَةٌ لغيره.
قال إمام الحرمين: «الأَفْعَالُ الجِبِلِيَّةُ التِي لاَ يَخْلُو ذُو الرُّوحِ عَنْ جَمِيعِهَا كَالسُّكُونِ وَالحَرَكَةِ وَالقِيَامِ وَالقُعُودِ وَمَا ضَاهَاهَا مِنْ تَغَايُرِ أَطْوَارِ النَّاسِ لاَ اسْتِمْسَاكَ بِهَا مِنْ فِعْلِ الرَّسُولِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (أَيْ لاَ اِلْتِزَامَ بِالاِقْتِدَاءِ بِهَا وُجُوبًا أَوْ اِسْتِحْبَابًا) أَمَّا مَا عَدَاهَا مِمَّا يَقَعُ فِي سِيَاقِ القُرْبِ فَقَدْ ذَهَبَتْ طَوَائِفٌ مِنَ المُعْتَزِلَةِ إِلَى أَنَّ فِعْلَهُ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَحْمُولٌ عَلَى الوُجُوبِ وَيَتَعَيَّنُ اتِّبَاعَهُ فِيهِ، ... وَذَهَبَ ذَاهِبُونَ إِلَى أَنَّ فِعْلَهُ لاَ يَدُلُّ عَلَى الوُجُوبِ، وَلَكِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الاِسْتِحْبَابِ، وَفِي كَلاَمِ الشَّافِعِىِّ مَا يَدُلُّ عَلَىَ ذَلِكَ، وَذَهَبَ [الوَاقِفِيَّةُ] إِلَىَ الوَقْفِ».
ثم قال: «فَمَنْ ادَّعَى أَنَّ الفِعْلَ بِعَيْنِهِ يَقْتَضِيَ الاِسْتِحْبَابَ فَهُوَ زَلَلٌ، [فَإِنَّ الفِعْلَ لاَ صِيْغَةَ لَهُ] وَمَنْ ادَّعَى أَنَّهُ لاَ يَتَأَسََّى بِفِعْلِ المُصْطَفَىَ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا ثَبَتَ قَصَدَ القُرْبَ فِيهِ فَقَدْ أَبْعَدَ [أَيْضًا]».
ثُمَّ قَالَ: «وَأَمَّا فِعْلَهُ المُرْسَلَ، الذِي لاَ يَظْهَرُ وُقُوعَهُ مِنْهُ عَلَىَ قَصْدِ [القُرْبَةِ] (وَهُوَ