شُبْهَةٌ عند البعض فِي أنَّ الإباحة حُكْمٌ شَرْعِىٌّ، والدارس لأصول الفقه يعلم من أئمته أَنَّ الإباحة حكم شرعي.
فالآمدى يُعَرِّفُ المباح بأنه ما دَلَّ الدليل السمعى على خطاب الشارع بِالتَّخْيِيرِ فيه بين الفعل والترك من غير بدل. (?).
والفخر الرازي يقول: القسم الثاني للإباحة، وتثبت بطرق ثلاثة:
[1] أَنْ يقول الشارع: إِنْ شئتم فافعلوا، وإنْ شئتم فاتركوا.
[2] أَنْ تدل أخبار الشرع على أنه لا حرج في الفعل والترك.
[3] أنْ لا يتكلم الشرع فيه البتة، ولكن انعقد الإجماع مع ذلك أَنَّ مَا لَمْ يَرِدْ فِيهِ طلب فعل ولا طلب ترك فالمكلف فيه غير مُخَيَّرٍ.
فالإباحة لا تتحقق إلاَّ على أحد هذه الوجوه الثلاثة المذكورة، وفي جميعها خطاب الشرع دَلَّ عليها، فكانت الإباحة من الشرع (?).
وَالإِمَامُ الجُوَيْنِيُّ يَقُولُ: «المُبَاحُ مَا خَيَّرَ الشَّارِعُ فِيهِ بَيْنَ الفِعْلِ وَالتَّرْكِ مِنْ غَيْرِ اقْتِضَاءٍ وَلاَ زَجْرٍ، وَلاَ حُكْمَ عَلَى العُقَلاَءِ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الأَحْكَامَ هِيَ الشَّرَائِعُ بِأَعْيَانِهَا، وَقَدْ افْتَرَقَتْ المُعْتَزِلَةُ، فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ مَا لاَ يُعَيِّنْ العَقْلُ فِيهِ قُبحًا وَلاَ حُسْنًا فَهُوَ عَلَى الحَظْرِ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ، وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّهُ عَلَى الإِبَاحَةِ» (?).
وَالشَّاطِبِيُّ يَقُولُ: «المَقْصَدُ الشَّرْعِيُّ مِنْ وَضْعِ الشَّرِيعَةِ إِخْرَاجُ المُكَلَّفِ مِنْ دَاعِيَةِ هَوَاهُ، حَتَّى يَكُونَ عَبْدًا للهِ اخْتِيَارًا، كَمَا هُوَ عَبْدٌ لِلَّهِ اضْطِرَارًا ... وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، لَمْ يَصِحَّ لأَحَدٍ أَنْ يَدَّعِيَ عَلَى الشَّرِيعَةِ أَنَّهَا وُضِعَتْ عَلَى مُقْتَضَى تَشَهِّي الْعِبَادِ وَأَغْرَاضِهِمْ؛ إِذْ لاَ تَخْلُو أَحْكَامُ الشَّرْعِ مِنَ الْخَمْسَةِ [إما الوجوب أو التحريم أو الندب أو الكراهة أو الإباحة].
أَمَّا الْوُجُوبُ وَالتَّحْرِيمُ، فَظَاهِرٌ مُصَادَمَتُهَا لِمُقْتَضَى الاسْتِرْسَالِ الدَّاخِلِ تَحْتَ الاخْتِيَارِ؛ إِذْ يُقَالُ لَهُ: «افْعَلْ كَذَا» كَانَ لَكَ فِيهِ غَرَضٌ أَمْ لاَ، وَ «لاَ تَفْعَلْ كَذَا». كَانَ لَكَ فِيهِ غَرَضٌ أَمْ لاَ ... [وَأَمَّا سَائِرُ الأَقْسَامِ]- وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُهَا الدُّخُولَ تَحْتَ [خِيَرَةِ] الْمُكَلَّفِ، فَإِنَّمَا دَخَلَتْ بِإِدْخَالِ الشَّارِعِ لَهَا تَحْتَ اخْتِيَارِهِ، فَهِيَ رَاجِعَةٌ إِلَى إِخْرَاجِهَا عَنِ اخْتِيَارِهِ، أَلاَ تَرَى أَنَّ الْمُبَاحَ قَدْ يَكُونُ لَهُ فِيهِ اخْتِيَارٌ وَغَرَضٌ؟، وَقَدْ لاَ يَكُونُ؟ [فَعَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ لَيْسَ لَهُ فِيهِ اخْتِيَارٌ، بَلْ فِي رَفْعِهِ مَثَلاً، كَيْفَ يُقَالُ: إِنَّهُ دَاخِلٌ تَحْتَ اخْتِيَارِهِ؟] فَكَمْ مِنْ صَاحِبِ هَوًى يَوَدُّ لَوْ كَانَ الْمُبَاحُ الْفُلاَنِيُّ مَمْنُوعًا، حَتَّى إِنَّهُ لَوْ وُكِّلَ إِلَيْهِ مَثَلاً تَشْرِيعُهُ لَحَرَّمَهُ، كَمَا يَطْرَأُ لِلْمُتَنَازِعَيْنِ فِي حَقٍّ فَسُبْحَانَ الَّذِي أَنْزَلَ فِي كِتَابِهِ: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} (?).