عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} (?)
لقد اشتبه على المخالف أن كل تشريع يطلب الاقتداء به، فظن أنه لا يطلب الاقتداء به - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، في غضبه، فلا تشريع في هذا الفعل منه - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وليس الأمر كما ظن، فالتشريع هنا أن الغضب عند البشر غير مقدور عليه، وغير مكتسب، وإنما هو انفعال لا يدخل تحت الإرادة، وهو معفو عنه - إِنْ شَاءَ اللهُ - في الحدود غير المقدور عليها، فإذا غضب مسلم بعد إثارة فقلت له: لا تغضب؟ قال لك رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غضب، فإذا صدر عنه وهو غاضب ما لا يصدر عنه في حال الرضا فقلت له: لِمَ لَمْ تسيطر على أعصابك؟ ولم صدر منك مثل هذا؟ قال لك: صدر من رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو غاضب ما لا يصدر عنه في حال الرضا.
فالتشريع في التماس العذر، ورجاء عفو الله عما صدر في حال الغضب، وبخاصة إذا عالج الآثار المترتبة عليه، بأن يدعو بخير لمن دعا عليه بشر، وأن يعوضه بنفع عما أصابه من ضُرٍّ، وأن يطلب السماح والصفح ممن أساء إليه.
إن الله تعالى أراد لرسوله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يغضب، وأن يأتي بأمور تقع من ابن آدم حين يغضب، ويمسك عن أمور ينبغي أن يمسك عنها المسلم حين يغضب، لِيُعَّلِّمَ الأُمَّةَ حُدُودَ ما يعفى عنه وما لا يعفى عنه، ولِيُعَّلِّمَ الأُمَّةَ علاج آثار الغضب.
كما أراد لرسوله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَنْسَى، وَأَنْ يَنْسَى فِي الصَّلاَةِ، فَيُسَلِّمَ من ثِنْتَيْنِ فِي صَلاَةٍ رُبَاعِيَّةٍ، ليقول: «إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ، فَإِذَا نَسِيتُ فَذَكِّرُونِي» (?). ثم يعلمنا أحكام النسيان في الصلاة.
إِنَّ أُمُورًا كثيرة غير مكتسبة تقع للأنبياء بحكم بشريتهم، لتتدخل الشريعة برسم الحدود الجائزة، والحدود الممنوعة.
الحزن مثلاً عند المصيبة، يموت لرسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ابنه إبراهيم - عَلَيْهِ السَّلاَمُ -، فيحزن، ويبكي، وتدمع عيناه، بل يجري دمعهما، فَيَقُولُ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: يَا رَسُولَ اللهِ، تَبْكِي، أَوَ لَمْ تَنْهَى عَنِ الْبُكَاءِ؟ فَيَقُولُ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِنَّمَا هَذَا رَحْمَةٌ» رِقَّةُ قَلْبٍ «مَنْ لاَ يَرْحَمُ لاَ يُرْحَمُ»، «إِنَّمَا نَهَيْتُ عَنْ صَوْتَيْنِ أَحْمَقَيْنِ فَاجِرَيْنِ: صَوْتٍ عِنْدَ نَغَمَةِ لَهْوٍ وَلَعِبٍ وَمَزَامِيرِ الشَيْطَانٍ، وَصَوْتٍ عِنْدَ مُصِيبَةٍ، وَخَمْشِ وُجُوهٍ، وَشَقِّ جُيُوبٍ، وَرَنَّةِ شَيْطَانٍ»، «إِنَّ العَيْنَ تَدْمَعُ، وَلاَ نَقُولُ مَا يُسْخِطُ الرَّبَّ» (?).