تشهد العقول بأنه لا يقدر على هذا التقليب إلا الخالق المدبر بالحكمة البالغة فحينئذ يستنير العقل بنور هذه المعرفة ويتخلص من مرض قلبه، فإن أكثر الخلق وقعوا في أمراض القلوب وهي حب الدنيا والحرص والحسد والتفاخر والتكاثر وهذه الدنيا مثل دار المرضى إذا كانت مملوءة من المرضى والأنبياء كالأطباء الحاذقين والمريض ربما كان قد يقوى مرضه فلا يعود إلى الصحة إلا بمعالجات قوية وربما كان المريض جاهلاً فلا ينقاد للطبيب ويخالفه في أكثر الأمر لأنّ الطبيب إذا كان مشفقاً حاذقاً فإنه يسعى في إزالة ذلك المرض بكل طريق يقدر عليه وإن لم يقدر على إزالته فإنه يسعى في تقليله وفي تخفيفه فلما كان مرض الدنيا مستولياً على الخلق ولا علاج له إلا بالدعوى إلى معرفة الله سبحانه وتعالى وخدمته وطاعته وهذا علاج شاق على النفوس وقل من يقبله وينقاد له لا جرم أنّ الأنبياء اجتهدوا في تقليل هذا المرض فحملوا الخلق على الشروع في الطاعة والعبودية من أوّل وقت القيام من النوم لأنه مما ينفع في إزالة هذا المرض.

ثم حث سبحانه وتعالى على التهجد لأفضليته وارشديته بقوله عز من قائل:

{س17ش79/ش82 وَمِنَ الَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ? نَافِلَةً لَّكَ عَسَى? أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا * وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِى مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِى مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّى مِن لَّدُنكَ سُلْطَانًا نَّصِيرًا * وَقُلْ جَآءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ? إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا * وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْءَانِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ? وَيَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِs خَسَارًا}

{ومن الليل} أي: وعليك أو وقم بعض الليل {فتهجد به} أي: واترك الهجود للصلاة يقال هجد وتهجد نام ليلاً وهجد وتهجد سهر فهو من الأضداد ومنه قيل لصلاة الليل التهجد قاله في الصحاح. والضمير في به لمطلق القرآن والمراد من الآية قيام الليل لصلاة النافلة فلا يحصل التهجد إلا بصلاة نفل بعد نوم، وكانت فريضة على النبيّ صلى الله عليه وسلم وعلى أمّته في الابتداء بقوله تعالى: {يا أيها المزمّل قم الليل إلا قليلاً} (المزمل: 1، 2)

ثم نسخ بما في آخرها، ثم نسخ بما في الصلوات الخمس وبقي قيام الليل على الاستحباب بقوله تعالى: {فاقرؤوا ما تيسر منه} (المزمل، 20)

وبقي الوجوب في حقه صلى الله عليه وسلم بدليل قوله تعالى: {نافلة لك} أي: زيادة لك مختصة بك. وروي عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاث هنّ عليّ فريضة وهنّ سنة لكم الوتر والسواك وقيام الليل» والصحيح أنه نسخ في حقه أيضاً ودليل النسخ رواه مسلم وقد وردت أحاديث كثيرة في قيام الليل منها ما روي «عن المغيرة بن شعبة أنه قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتفخت قدماه فقيل له: أتتكلف هذا وقد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخر؟ قال: أفلا أكون عبداً شكوراً» . ومنها ما روي عن زيد بن خالد الجهني أنه قال: لأرمقنّ صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم الليلة فتوسدت عتبته أو فسطاطه فقام فصلى ركعتين خفيفتين ثم صلى ركعتين طويلتين ثم ركعتين طويلتين ثم ركعتين طويلتين، ثم ركعتين دون اللتين قبلهما، ثم أوتر فذلك ثلاث عشرة ركعة، فلهذا قيل: إنه أكثر الوتر وهو أحد قولي الشافعيّ والمرجح عنده أن أكثره إحدى عشرة ركعة، لما رواه أبو سلمة أنه سأل عائشة رضي الله تعالى عنها عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة.، أي: وتراً يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهنّ وطولهنّ ثم يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهنّ وطولهنّ ثم يصلي ثلاثاً قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: فقلت: يا رسول الله أتنام قبل أن توتر؟ فقال: «يا عائشة إن عيني تنام ولا ينام قلبي» . ومنها ما روي عن أنس بن مالك قال: «ما كنا نشاء أن نرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الليل مصلياً إلا رأيناه وما نشاء

طور بواسطة نورين ميديا © 2015