وأشار إلى القسم الثاني بقوله تعالى: {وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتاً} وأشار إلى القسم الثالث بقوله تعالى: {والله} أي: الذي له الجلال والإكرام {جعل لكم} أي: من غير حاجة منه تعالى {مما خلق} من شجر وجبال وأبنية وغيرها. وقوله تعالى: {ظلالاً} جمع ظل تتقون به شدّة الحرّ. وقوله تعالى: {وجعل لكم} مع غناه المطلق {من الجبال أكناناً} جمع كنّ موضع تسكنون فيه من الكهوف والبيوت المنحوتة فيها {وجعل لكم} أي: امتناناً منه عليكم {سرابيل} جمع سربال. قال الزجاج: كل ما لبسته فهو سربال من قميص أو درع أو جوشن أو غيره، أي: وسواء كان من صوف أو كتان أو قطن أو غير ذلك {تقيكم الحرّ} ولم يقل تعالى والبرد لتقدّمه في قوله تعالى: {فيها دفء} (النحل، 5)
. وقيل: إنه اكتفى بأحد المتقابلين. وقيل: كان المخاطبون بهذا الكلام العرب وبلادهم حارّة فكان حاجتهم إلى ما يدفع الحرّ فوق حاجتهم إلى ما يدفع البرد كما قال تعالى: {ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها} وسائر أنواع الثياب أشرف إلا أنه تعالى ذكر ذلك النوع لأنه كان الفهم بها أشدّ واعتيادهم للبسها أكثر، ولما كانت السرابيل نوعاً واحداً لم يكرّر لفظ جعل فقال: {وسرابيل} أي: دروعاً من حديد وغيرها {تقيكم بأسكم} أي: حربكم، أي: في الطعن والضرب فيها. ولما عدّد الله تعالى أنواع نعمه قال: {كذلك} أي: كإتمام هذه النعمة المتقدّمة {يتمّ نعمته عليكم} في الدنيا والدين بالبيان والهداية لطريق النجاة والمنافع والتنبيه على دقائق ذلك {لعلكم} يا أهل مكة {تسلمون} أي: تخلصون لله الربوبية وتعلمون أنه لا يقدر على هذه الأنعامات أحد سواه، وقيل: تسلمون من الجراح بلبس الدروع.
{فإن تولوا} فلم يقبلوا منك وآثروا لذات الدنيا ومتابعة الآباء والمعاداة في الكفر {فإنما عليك} يا أفضل الخلق {البلاغ المبين} هذا جواب الشرط وفي الحقيقة جواب الشرط محذوف، أي: فقد تمهد عذرك بعد ما أدّيت ما وجب عليك من التبليغ فذكر سبب العذر وهو البلاع ليدل على المسبب وذلك لأنّ تبلغيه سبب في عذره فأقيم السبب مقام المسبب وهذا قبل الأمر بالقتال، ثم إنه تعالى ذمّهم بأنهم
{يعرفون نعمة الله} أي: الملك الأعظم التي تقدّم عدّ بعضها في هذه السورة وغيرها {ثم ينكرونها} بعبادتهم غير المنعم بها، وقال السدي: نعمة الله يعني محمداً صلى الله عليه وسلم أنكروه وكذبوه. وقيل: نعمة الله هي الإسلام وهو من أعظم النعم التي أنعم الله تعالى بها على عباده، ثم إنّ كفار مكة أنكروه وجحدوه، واختلف في معنى قوله تعالى: {وأكثرهم الكافرون} مع أنهم كلهم كانوا كافرين على وجوه؛ الأوّل: إنما قال تعالى: {وأكثرهم} لأنه كان فيهم من لم تقم عليه الحجة، ممن لم يبلغ حدّ التكليف أو كان ناقص العقل فأراد بالأكثر البالغين الأصحاء. الثاني: أن يكون المراد بالكافر الجاحد المعاند وكان فيهم من لم يكن معانداً بل كان جاهلاً بصدق الرسول وما ظهر له كونه نبياً حقاً من عند الله. الثالث: أنه ذكر الأكثر والمراد الجميع لأنّ أكثر الشيء يقوم مقام الكل، فذكر الأكثر كذكر الجميع، وهذا كقوله تعالى: {الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون} (الزمر، 29)
ولما بين تعالى من حال القوم أنهم عرفوا نعمة الله ثم أنكروها وذكر أيضاً من حالهم أن أكثرهم كافرون أتبعه بالوعيد فذكر حال يوم القيامة بقوله تعالى: {ويوم} أي: وخوّفهم