شبههم في إنكار نبوّته صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى:
{وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر} ، أي: القرآن في زعمه {إنك لمجنون} إنما نسبوه إلى الجنون إما لأنهم كانوا يستبعدون كونه رسولاً حقاً من عند الله لأنّ الرجل إذا سمع كلاماً مستبعداً من غيره فربما قال به جنون، وإما لأنه عليه الصلاة والسلام كان يظهر عليه عند نزول الوحي حالة شبيهة بالغشي فظنوا أنها جنون ويدل عليه قوله تعالى: {أولم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة} (الأعراف، 184)
ثم أتبعوه ما زعموا أنه دليل على قولهم فقالوا:
{لو ما} ، أي: هلا {تأتينا بالملائكة} ، أي: يشهدون لك بأنك رسول من عند الله حقاً. {إن كنت من الصادقين} في إدعائك للرسالة وأنّ هذا القرآن من عند الله ولما كان في قولهم أمران أجاب الله تعالى عن قولهم الثاني لأنه أقرب بقوله تعالى:
{وما ننزل الملائكة إلا بالحق} ، أي: إلا تنزلاً ملتبساً بالحكمة والمصلحة ولا حكمة في أن نأتيكم بهم عياناً تشاهدونهم ويشهدون لكم بصدق النبيّ صلى الله عليه وسلم لأنكم حينئذ مصدقون عن اضطرار ومثله قوله تعالى: {وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق} (الحجر، 85)
وقيل الحق الوحي أو العذاب. وقرأ شعبة بضم التاء مع فتح الزاي ورفع الملائكة وحفص وحمزة والكسائي بنونين الأولى مضمومة والثانية مفتوحة وكسر الزاي ونصب الملائكة والباقون بالتاء مفتوحة مع فتح الزاي ورفع الملائكة وشدّد التاء البزي في الوصل، وأما الزاي فهي مشدّدة للجميع من يفتح ومن يكسر {وما كانوا} ، أي: الكفار {إذاً} ، أي: إذ تأتيهم الملائكة {منظرين} ، أي: لزوال الإمهال عنهم فيعذبوا في الحال إن لم يؤمنوا ويصدّقوا وكان حينئذ يفوت ما قضينا به من تأخيرهم وإخراج من أردنا إيمانه من أصلابهم ثم أجاب تعالى عن الأوّل بقوله تعالى مؤكذاً لتكذيبهم:
{إنا نحن} بما لنا من العظمة والقدرة {نزلّنا} ، أي: بالتدريج على لسان جبريل عليه السلام {الذكر} ، أي: القرآن {وإنا له لحافظون} ، أي: من التبديل والتحريف والزيادة والنقصان، ونظيره قوله تعالى: {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً} (النساء، 82)
فالقرآن العظيم محفوظ من هذه الأشياء كلها لا يقدر أحد من جميع الخلق من الجن والإنس أن يزيد فيه أو ينقص منه كلمة واحدة أو حرفاً واحداً وهذا مختص بالقرآن العظيم بخلاف سائر الكتب المنزلة فإنه قد دخل على بعضها التحريف والتبديل والزيادة والنقصان، فإن قيل: فلم اشتغلت الصحابة بجمع القرآن في المصحف وقد وعد الله تعالى بحفظه وما حفظه الله تعالى فلا خوف عليه؟ أجيب: بأن جمعهم القرآن في المصحف كان من أسباب حفظ الله تعالى إياه فإنه تعالى لما أراد حفظه قيضهم لذلك، قال أصحابنا: وفي هذه الآية دلالة قوية على كون البسملة آية من أول كل سورة لأن الله تعالى قد وعد حفظ القرآن والحفظ لا معنى له إلا أن يبقى مصوناً من الزيادة والنقصان فلو لم تكن البسملة آية من القرآن لما كان مصوناً عن التغيير ولما كان محفوظاً عن الزيادة ولو جاز أن يظنّ بالصحابة أنهم زادوا جاز أيضاً أن يظن بهم النقصان وذلك يوجب خروج القرآن عن كونه حجة، وقيل: الضمير في له راجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم والمعنى: وإنا لمحمد لحافظون ممن أراد به سوءاً فهو كقوله تعالى: {والله يعصمك من الناس} (المائدة، 67)
. ولما أساء الكفار عليه صلى الله عليه وسلم في الأول وخاطبوه