الأجساد وعالم الأرواح ويدبر الكبير كما يدبر الصغير، فلا يشغله شأن عن شأن، ولا يمنعه تدبير عن تدبير، وذلك يدل على أنه تعالى متعال في ذاته وصفاته وعلمه وقدرته عن مشابهة المحدثات والممكنات.
ولما كان هذا بياناً شافياً لا لبس فيه قال تعالى: {يفصل} ، أي: يبين {الآيات} التي برزت إلى الوجود وتدبيرها الدالة على وحدانيته وكمال حكمته المشتملة عليها مبتدعاته فيفرقها ويباين بينها مباينة لا لبس فيها تقريباً لعقولكم وتدريباً لفهومكم لتعلموا أنها فعل الواحد المختار.
ولما كان هذا التدبير وهذا التفصيل دالاً على تمام القدرة وغاية الحكمة وكان البعث لفصل القضاء والحكم بالعدل وإظهار العظمة هو محط الحكمة علل ذلك بقوله {لعلكم} يا أهل مكة {بلقاء ربكم} بالبعث {توقنون} فتعلموا أنّ من قدر على خلق هذه الأشياء وتدبيرها على عظمتها وكثرتها قادر على إيجاد الإنسان وإحيائه بعد موته، يروى أنّ واحداً قال لعليّ بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: أنه تعالى كيف يحاسب الخلق دفعة واحدة، فقال: كما يرزقهم الآن دفعة واحدة، وكما يسمع نداءهم ويجيب دعاءهم الآن دفعة واحدة، وحاصل الكلام أنه تعالى كما قدر على إبقاء الأجرام الفلكية والنيرات الكوكبية في الجوّ العالي لا يبعد أن يرد الأرواح إلى الأجساد، وإن كان الخلق عاجزين عنه، وكما يمكنه أن يدبر من فوق العرش إلى ما تحت الثرى لا يشغله شأن، عن شأن فكذلك يحاسب الخلق بحيث لا يشغله شأن عن شأن.
تنبيه: اليقين صفة من صفات العلم، وهي فوق المعرفة، والدراية وهي سكون الفهم مع ثبات الحكم وزوال الشك. ولما ذكر تعالى الدلائل الدالة على وحدانيته وكمال قدرته من رفع السماء بغير عمد وأحوال الشمس والقمر أردفها بذكر الدلائل الأرضية بقوله تعالى: {وهو الذي مدّ الأرض} ، أي: بسطها طولاً وعرضاً لتثبت عليها الأقدام ويتقلب عليها الحيوان ولوشاء لجعلها كالجدار والأزج لا يستطاع القرار عليها هذا إذا قلنا أنّ الأرض مسطحة لا كرة، وعند أصحاب الهيئة أنها كرة فكيف يقولون بذلك ومدّ الأرض ينافي كونها كرة، كما ثبت بالدليل؟ أجيب: بأنّ الأرض جسم عظيم والكرة إذا كانت في غاية الكبر كان كل قطعة منها تشاهد كالسطح كما أنّ الله تعالى جعل الجبال أوتاداً مع أنّ العالم من الناس يستقرّون عليها، فكذلك ومع هذا فالله تعالى قد أخبر أنه مدّ الأرض ودحاها وبسطها، وكل ذلك يدل على التسطيح والله تعالى أصدق قيلاً وأبين دليلاً من أصحاب الهيئة هذا هو الدليل الأوّل من الدلائل الأرضية.
الثاني منها قوله: {وجعل} ، أي: وخلق {فيها} ، أي: الأرض {رواسي} ، أي: جبالاً ثوابت واحدها راسية، أي: ثابتة باقية في حيزها غير منتقلة عن مكانها لا تتحرّك ولا يتحرك ما هي راسية فيه وهذا لا بدّ وأن يكون بتخليق القادر الحكيم قال ابن عباس: أوّل جبل وضع على وجه الأرض جبل أبي قبيس ولما غلب على الجبال وصفها بالرواسي صارت الصفة تغني عن الموصوف، فجمعت جمع الاسم كحائط وكاهل قاله أبو حيان.
الثالث منها قوله تعالى: {وأنهاراً} ، أي: وجعل في الأرض أنهاراً جارية لمنافع الخلق، والنهر المجرى الواسع من مجاري الماء، وأصله الاتساع، ومنه النهار لاتساع ضيائه. الرابع منها: قوله تعالى: {ومن كل الثمرات} وهو متعلق