عن مطابقة الواقع من بعث ولا غيره {ولكن أكثر الناس} ، أي: مشركي مكة {لا يؤمنون} لإخلالهم بالنظر والتأمّل فيه.

قال مقاتل: نزلت في مشركي مكة حين قالوا: إنّ محمداً يقوله من تلقاء نفسه فرد الله تعالى عليهم بذلك. ولما ذكر تعالى أنّ {أكثر الناس لا يؤمنون} ذكر عقبه ما يدّل على صحة التوحيد والمعاد بأمور أحدها قوله تعالى:

{الله الذي رفع السموات بغير عمد} ، أي: سواري جمع عمود كأدم وأديم أو عماد كأهب وإهاب، والعمود جسم مستطيل يمنع المرتفع أن يميل، وقوله جمع عمود كأدم وأديم الخ في «حاشية الجمل» : والعامة على فتح العين والميم وهو اسم جمع وعبارة بعضهم أنه جمع نظراً إلى المعنى دون الصناعة وقرأ أبو حيوة ويحيى بن وثاب عمد بضمتين ومفرده يحتمل أن يكون عماداً كشهاب وشهب وكتاب وكتب وأن يكون عموداً كرسول ورسل اه. {ترونها} ، أي: وأنتم ترون السماء مرفوعة بغير عمد من تحتها تسندها ولا من فوقها علاقة تمسكها، فالعمد منفية بالكلية، قال إياس بن معاوية: السماء مقبية على الأرض مثل القبة ففي ذلك دلالة عظيمة على وحدانية الله تعالى؛ لأنّ هذه الأجسام العظيمة بقيت واقفة في الجوّ العالي، ويستحيل أن يكون بقاؤها هناك لأعيانها ولذاتها فهذا برهان باهر على وجود الإله القادر القاهر، وقيل: الضمير راجع إلى العمد، أي: أن لها عمداً ولكن لا ترونها أنتم، ومن قال بهذا القول يقول: أن عمدها على جبل قاف وهو جبل من زمرّد محيط بالدنيا والسماء عليه مثل القبة وهذا قول مجاهد وعكرمة، قال الرازي: وهذا التأويل في غاية السقوط، لأنّ السموات لما كانت مستقرّة على جبل قاف فأي دلالة تبقى فيها على وجود الإله.

تنبيه: الله مبتدأ، والذي رفع السموات خبره، ويجوز أن يكون الموصول صفة، والخبر يدبر الأمر.

ثانيها: قوله تعالى: {ثم استوى على العرش} بالحفظ والتدبير والقهر والقدرة، أي: أنّ من فوق العرش إلى ما تحت الثرى في حفظه وتدبيره وفي الاحتياج إليه وتقدّم الكلام على ذلك في سورة الأعراف بما فيه كفاية.

وثالثها: قوله تعالى: {وسخر} ، أي: ذلل {الشمس والقمر} لمنافع خلقه مقهوران يجريان على ما يريد {كل} منهما {يجري} في فلكه {لأجل مسمى} ، أي: إلى وقت معلوم وهو وقت فناء الدنيا وزوالها وعند مجيء ذلك الوقت تنقطع هذه الحركات وتبطل تلك التسييرات، كما وصف الله تعالى ذلك في قوله {إذا الشمس كورت} (التكوير، 1) ، {وإذا النجوم انكدرت} (التكوير، 2) ، {وإذا السماء انشقت} (الإنشقاق، 1) ، {وإذا السماء انفطرت} (التكوير، 1) وعن ابن عباس للشمس وثمانون منزلاً كل يوم لها منزل وذلك يتمّ في ستة أشهر ثم أنها تعودمرّة أخرى إلى واحد واحد منها في ستة أشهر مرّة أخرى، وكذلك القمر له ثمانية وعشرون منزلاً، فالمراد بقوله تعالى: {كل يجري لأجلٍ مسمى} هذا، وتحقيقه أنه تعالى قدّر لكل واحد من تلك الكواكب سيراً إلى جهة خاصة بمقدار خاص من السرعة والبطء، وحينئذ يلزم أن يكون لها بحسب كل لحظة ولمحة حالة أخرى ما كانت حاصلة قبل ذلك. ثم إنه تعالى لما ذكر هذه الدلائل قال: {يدبر الأمر} ، أي: يقضي أمر ملكه من الإيجاد والإعدام والإحياء والإماتة والإغناء والإفقار، ويدخل فيه إنزال الوحي وبعثة الرسل، وتكليف العباد، وفي ذلك دليل عجيب على كمال القدرة والرحمة وذلك؛ لأنّ هذا العالم المعلوم من إعلاء العرش إلى ما تحت الثرى أنواع وأجناس لا يحيط بها إلا الله عز وجل، والدليل المذكور على أنّ اختصاص كل واحد منها بوضعه وموضعه وصفته وطبيعته وحليته ليس إلا من الله تعالى، ومن المعلوم أنّ من اشتغل بتدبير شيء آخر فإنه يشغله شأن، عن شأن فالعاقل إذا تأمّل في هذه الآية علم أنه تعالى يدبر عالم

طور بواسطة نورين ميديا © 2015