اعقلها وتوكل، فأجابوه إلى ذلك كما قال تعالى {فلما آتوه موثقهم} بذلك {قال الله على ما نقول} نحن وأنتم {وكيل} ، أي: شهيد، وأرسله معهم بعد ذلك.
فإن قيل: لم أرسله معهم وقد شاهد منهم ما شاهد في يوسف عليه السلام؟ أجيب: بأن ذلك لوجوه: أحدها: أنهم كبروا ومالوا إلى الخير والصلاح، الثاني: أنه كان شاهد أنه ليس بينهم وبين بنيامين من الحسد والحقد مثل ما كان بينهم وبين يوسف عليه السلام، الثالث: لعل الله أوحى إليه وضمن حفظه وإيصاله إليه.
{و} لما عزموا على الخروج إلى مصر وكانوا موصوفين بالكمال والجمال وأبناء رجل واحد {قال} لهم {يا بني لا تدخلوا} إذا قدمتم إلى مصر {من باب واحد} من أبوابها {وادخلوا من أبواب} واحترز من أن تكون متلاصقة أو متقاربة جداً بقوله: {متفرّقة} ، أي: تفرّقا كثيراً، وهذا حكم التكليف لئلا يصابوا بالعين، وهي من قدر الله تعالى.
وقد ورد شرعنا بذلك ففي الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «العين حق» . وفي رواية عن أحمد «يحضرها الشيطان وحسد ابن آدم» . وفي رواية لمسلم: «العين حق ولو كان شيء سابق القدر لسبقته العين» . وفي رواية عن جابر: «إنّ العين لتدخل الجمل القدر والرجل القبر» ، وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم كان يعوّذ الحسن والحسين فيقول: «أعيذكما بكلمات الله التامّة من كل شيطان وهامّة ومن كل عين لامّة» . ويقول: «هكذا كان يعوّذ إبراهيم إسماعيل وإسحاق» صلوات الله وسلامه عليهم وعلى سائر النبيين، وعن عبادة بن الصامت قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في أوّل النهار فوجدته شديد الوجع، ثم عدت إليه في آخر النهار فرأيته معافى فقال: «إنّ جبريل عليه السلام أتاني فرقاني فقال: بسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك من كل عين وحاسد الله يشفيك، قال فأفقت» وفي رواية أنّ بني جعفر بن أبي طالب كانوا غلماناً بيضاً فقالت أسماء: يا رسول الله، إنّ العين إليهم سريعة فاسترق لهم من العين؟ فقال لها: «نعم» . وفي رواية دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت أمّ سلمة وعندها صبي يشتكي فقالوا: يا رسول الله أصابته العين. فقال: «أما تسترقون له من العين» . وعن عائشة رضي الله تعالى عنها «كان يؤمر العائن أن يتوضأ ثم يغتسل منه المعين الذي أصيب بالعين» .
ولما خاف يعقوب عليه السلام أن يسبق من أمره هذا إلى بعض الأوهام أنّ الحذر يغني عن القدر نفى ذلك بقوله عليه السلام {وما أغني} ، أي: أدفع {عنكم} بقولي ذلك {من الله من شيء} قدره عليكم، وإنما ذلك شفقة، ومن مزيدة للتأكيد، واعلم أنّ الإنسان مأمور بأن يراعي الأسباب المعتبرة في هذا العالم بأن يجزم بأنه لا يحصل الا ما قدره الله تعالى وإن الحذر لايدفع القدر، فالإنسان مأمور بأن يحذر الأشياء المهلكة والأغذية الضارة، ويسعى في تحصيل المنافع ودفع المضارّ بقدر الإمكان، ومع ذلك يكون جازماً بأنه لا يصل إليه إلا ما قدّره الله تعالى، ولا يحصل في الوجود إلا ما أراده الله تعالى، فقوله عليه السلام: {لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة} إشارة إلى رعاية الأسباب المعتبرة في هذا العالم، وقوله: {وما أغني عنكم من الله من شيء} إشارة إلى عدم الالتفات إلى الأسباب بل إلى التوحيد المحض، والبراءة من كل شيء سوى الله تعالى. ولما قصر