لأخيهم الغائب عند أبيهم منعوا منه.
والثاني: أنهم منعوا الكيل في المستقبل، وهو قول يوسف عليه السلام: {فلا كيل لكم عندي ولا تقربون} ويدل لهما قولهم: {فأرسل معنا أخانا} بنيامين {نكتل} فإنّ حمزة والكسائي قرآه بالياء، أي: يكتل لنفسه، وهذا يدل للقول الأوّل، والباقون بالنون، أي: نكتل نحن وإياه، وهذا يدل للقول الثاني {وإنا له لحافظون} عن أن يناله مكروه حتى نردّه إليك، فلما قالوا ليعقوب عليه السلام هذه المقالة.
{قال} لهم {هل آمنكم} ، أي: أقبل منكم الآن وفي مستقبل الزمان تأمينكم لي فيه بما يسوءني تأميناً مستقبلاً {عليه} ، أي: بنيامين {إلا كما أمنتكم} ، أي: في الماضي {على أخيه} يوسف عليه السلام {من قبل} فإنكم أكدتم غاية التأكيد فلم تحفظوه لي ولم تردّوه إليّ، والأمن اطمئنان القلب إلى سلامة النفس، فأنا في هذا لا آمن عليه إلا الله تعالى {فالله} المحيط علماً وقدرة {خيرٌ حافظاً} منكم ومن كل أحد، ففيه التفويض إلى الله تعالى والاعتماد عليه في جميع الأمور. وقرأ حفص وحمزة والكسائي بفتح الحاء وألف بعدها وكسر الفاء، والباقون بكسر الحاء وسكون الفاء، وهو منصوب على التمييز في القراءتين، وتحتمل الأولى النصب على الحال اللازمة {وهو أرحم الراحمين} ، أي: أرحم بي من أن يفجعني به بعد مصيبتي بأخيه فلا يجمع عليّ مصيبتين.
{ولما} أرادوا تفريغ ما قدموا به من الميرة {فتحوا متاعهم} ، أي: أوعيتهم التي حملوها من مصر {وجدوا بضاعتهم} ، أي: ما كان معهم من كنعان لشراء القوت {ردّت إليهم} والوجدان ظهور الشيء للنفس بحاسة أو ما يغني عنها، فكأنه قيل: ما قالوا؟ فقيل: {قالوا} ، أي: لأبيهم عليه السلام {يا أبانا ما} استفهامية، أي: أي شيء {نبغي} ، أي: نريد، جميع القراء أثبتوا الياء وقفاً ووصلاً لثباتها في الرسم، فكأنه قال لهم: ما الخبر؟ فقالوا بياناً لذلك؟ وتأكيداً للسؤال في استصحاب أخيهم: {هذه بضاعتنا ردّت إلينا} هل من مزيد على ذلك أكرمنا وأحسن مثوانا وباع منا وردّ علينا متاعنا.
ولما كان التقدير ونرجع بها إليه بأخينا، فيظهر له نصحنا وصدقنا {ونمير أهلنا} ، أي: نجلب إليهم الميرة برجوعنا إليه، والميرة الأطعمة التي تحمل من بلد إلى بلد {ونحفظ أخانا} فلا يصيبه شيء مما تخشى عليه تأكيداً للوعد بحفظه {ونزداد كيل بعير} لأخينا {ذلك كيل يسير} ، أي: سهل على الملك لسخائه وحرصه على البذل، وقيل: قصير المدّة ليس سبيل مثله أن تطول مدّته بحسب الحبس والتأخير، وقيل قليل فابعث أخانا حتى نبدل تلك القلة بالكثرة، فكأنه قيل: ما قال لهم؟ فقيل:
{قال} يعقوب عليه السلام: {لن أرسله} ، أي: بنيامين كائناً {معكم} ، أي: في وقت من الأوقات {حتى تؤتوني موثقاً} ، أي: عهد مؤكداً {من الله} قرأ ابن كثير بإثبات الياء بعد النون وقفاً ووصلاً، وأبو عمرو بإثبات الياء وقفاً لا وصلاً، وحذفها الباقون وقفاً ووصلاً، وقوله {لتأتنني} ، أي: كلكم {به} أي: تحلفوا بالله لتأتنني به من الإتيان، وهو المجيء في كل حال جواب القسم، أو المعنى حتى تحلفوا بالله لتأتنني به {إلا} ، أي: في حال {أن يحاط} ، أي: تحصل الإحاطة بمصيبة من المصائب لاطاقة لكم بها {بكم} فتهلكوا من عند آخركم كل ذلك زيادة في التوثيق بما حصل له من المصيبة بيوسف عليه السلام، وإن كان الاعتماد في حفظه إنما هو على الله تعالى، وهذا من باب