وسبب نزول هذه الآية ما رواه الترمذي عن أبي اليسر بن عمر وقال: أتتني امرأة وزوجها بعثه النبيّ صلى الله عليه وسلم في بعث فقالت: بعني بدرهم تمراً. قال: فأعجبتني فقلت: إنّ في البيت تمراً هو أطيب من هذا فالحقيني، فَدَخَلَتْ معي البيت فأهويت إليها فقبلتها، فأتيت أبا بكر فذكرت ذلك له فقال: استر على نفسك وتب ولا تخبر أحداً، فأتيت عمراً فذكرت له ذلك فقال: استر على نفسك وتب ولا تخبر أحداً، فأتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال: «أخنت رجلاً غازياً في سبيل الله في أهله بمثل هذا» حتى تمنى أنه لم يكن أسلم إلا تلك الساعة حتى ظنّ أنه من أهل النار وأطرق رسول الله صلى الله عليه وسلم طويلاً حتى أوحي إليه: {وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفاً من الليل} إلى قوله تعالى: {ذلك ذكرى للذاكرين} ، أي: عظة للمتقين. قال أبو اليسر: فأتيته فقرأها عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ألهذا خاصة أم للناس عامّة؟ قال: «بل للناس عامّة» . قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. وعن عبد الله بن مسعود أنّ رجلاً أصاب من امرأة قبلة فأتى النبيّ صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فنزلت فقال رجل: يا رسول الله، ألهذا خاصة؟ فقال: «بل للناس كافة» . وعن معاذ بن جبل قال: أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم رجل فقال: يا رسول الله، أرأيت رجلاً لقي امرأة ليس بينهما معرفة وليس يأتي الرجل إلى امرأة شيئاً إلا قد أتى هو إليها إلا أنه لم يجامعها؟ قال: فأنزل الله تعالى هذه الآية، وأمره النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يتوضأ ويصلي، فقال معاذ بن جبل فقلت: يا
رسول الله، أهي له خاصة أم للمؤمنين عامّة؟ قال: «بل للمؤمنين عامّة» . قال العلماء: الصغائر من الذنوب تكفرها الأعمال الصالحة مثل الصلاة والصدقة والذكر والاستغفار ونحو ذلك من أعمال البر، وأمّا الكبائر من الذنوب فلا يكفرها إلا التوبة النصوح ولها ثلاث شرائط: الأوّل: الإقلاع عن الذنب بالكلية، الثاني: الندم على فعله، الثالث: العزم التام على أن لا يعود إليه في المستقبل، فإذا حصلت هذه الشرائط صحت التوبة وكانت مقبولة إن شاء الله تعالى والإشارة في قوله تعالى {ذلك ذكرى} إلى ما تقدّم ذكره من قوله تعالى: {فاستقم كما أمرت} إلى ههنا. وقيل: هو إشارة إلى القرآن. وقوله تعالى:
{واصبر} خطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم أي: واصبر يا محمد على أذى قومك أو على الصلاة وهو قوله تعالى: {وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليهافإن الله لا يضيع أجر المحسنين} ، أي: أجر أعمالهم. وعدل عن الضمير ليكون كالبرهان على المقصود ودليلاً على أنّ الصلاة والصبر إحسان وإيماء بأنه لا يعتد بهما دون الإخلاص. ولما بيّن تعالى أنّ الأمم المتقدّمين حل بهم عذاب الاستئصال بين أنّ السبب فيه أمران، السبب الأوّل: أنه ما كان فيهم قوم ينهون عن الفساد في الأرض فقال تعالى:
{فلولا} ، أي: فهلا {كان من القرون} ، أي: من الأمم الماضية {من قبلكم أولو بقية} ، أي: أصحاب رأي وخير وفضل {ينهون عن الفساد في الأرض} وسمي الفضل والجود بقية؛ لأنّ الرجل يستبقي مما يخرجه أجوده وأفضله فصار مثلاً في الجودة والفضل، ويقال: فلان من بقية القوم، أي: من خيارهم وبه فسر بيت الحماسة:
*إن تذنبوا ثم يأتيني بقيتكم
ومنه قولهم: في الزوايا خبايا، وفي الرجال بقايا. ويجوز أن تكون البقية بمعنى البقوى كالتقية بمعنى التقوى، أي: فهلا كان منهم ذوو بقاء على أنفسهم