تعالى: {إنه بما يعملون خبير} وهو من أعظم المؤكدات فإنه تعالى لا يخفى عليه شيء من أعمال عباده، ففيه وعد للمحسنين ووعيد للمكذبين الكافرين. ولما بين تعالى أمر الوعد والوعيد قال لنبيه صلى الله عليه وسلم
{فاستقم} ، أي: على دين ربك والعمل والدعاء إليه {كما أمرت} والأمر في ذلك للتأكيد فإنّه صلى الله عليه وسلم كان على الاستقامة لم يزل عليها، فهو كقولك للقائم: قم حتى آتيك، أي: دم على ما أنت عليه من القيام حتى آتيك، وتوطيئة لقوله تعالى: {ومن تاب معك} ، أي: وليستقم أيضاً على دين الله والعمل بطاعته من آمن معك. قال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: الاستقامة أن تستقيم على الأمر والنهي ولا تروغ عنه روغان الثعلب، وأشار صلى الله عليه وسلم إلى شدّة الاستقامة بقوله:
«شيبتني هود وأخواتها» ، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ما نزلت على النبيّ صلى الله عليه وسلم آية أشدّ ولا أشق من هذه الآية، وعن بعضهم: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم فقلت له: يروى عنك أنك قلت: «شيبتني هود» فقال: نعم. فقلت: بأيّ آية قال: «قوله تعالى {فاستقم كما أمرت} . وعن سفيان بن عبد الله الثقفي قال: قلت: يا رسول الله: قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحد غيرك؟ قال: «قل آمنت بالله ورسوله ثم استقم» . قال الإمام الرازي: إن هذه الآية أصل عظيم في الشريعة، وذلك لأنّ القرآن لما ورد بالأمر بأعمال الوضوء مرتبة في اللفظ وجب اعتبار الترتيب فيها لقوله تعالى: {فاستقم كما أمرت} ولما ورد الأمر في الزكاة بأداء الإبل من الإبل والبقر من البقر وجب اعتبارها، وكذا القول في كل ما ورد أمر الله تعالى به انتهى. ولما كانت الاستقامة هي التوسط بين طرفي الإفراط والتفريط نهى عن الإفراط بقوله تعالى: {ولا تطغوا} ، أي: لا تتجاوزوا الحد فيما أمرتم به أو نهيتم عنه بالزيادة إفراطاً، فإن الله تعالى إنما أمركم ونهاكم لتهذيب أنفسكم لا لحاجته إلى ذلك، ولن تطيقوا أن تقدروا الله حق قدره والدين متين لم يشادّه أحد إلا غلبه، كما ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه فسددوا وقاربوا ويسروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة» ، فقوله صلى الله عليه وسلم: إنّ الدين يسر ضدّ العسر أراد به التسهيل في الدين وترك التشديد فإنّ هذا الدين مع يسره وسهولته قوي فلن يغالب ولن يقاوى. وقوله وسدّدوا، أي: اقصدوا السداد في الأمور وهو الصواب وقاربوا، أي: اطلبوا المقاربة وهي القصد الذي لا غلوّ فيه ولا تقصير، والغدوة الرواح بكرة، والرواح الرجوع عشاء. والمراد منه: اعملوا بالنهار واعملوا بالليل أيضاً. وقوله: واستعينوا بشيء من الدلجة إشارة إلى تقليله،
ولما نهى تعالى عن الإفراط وهو الزيادة تصريحاً أفهم النهي عن التفريط وهو النقص عن المأمور تلويحاً من باب أولى، ثم علل ذلك مؤكداً تنزيلاً لمن يفرط أو يفرّط منزلة المنكر فقال: {إنه بما تعملون بصير} ، أي: عالم بأعمالكم كلها لا يخفى عليه شيء منها فيجازيكم عليها.
{ولا تركنوا} ، أي: تميلوا {إلى الذين ظلموا} أدنى ميل {فتمسكم النار} ، أي: تصيبكم بحرها والنهي متناول للانحطاط في هواهم والانقطاع إليهم ومصاحبتهم ومجالستهم وزيارتهم ومراقبتهم والرضا بأعمالهم والتشبيه بهم والتزيي بزيهم ومد العين إلى زهرتهم وذكرهم بما فيه تعظيم لهم، وتأمل قوله تعالى: {ولا تركنوا} فإنّ الركون هو الميل