{من مثقال} أي: وزن {ذرّة} وهي النملة الحمراء الصغيرة خفيفة الوزن جدّاً. وقيل: المراد بها الهباء وهو الشيء المنبث الذي تراه في البيت في ضوء الشمس. وقرأ الكسائي بكسر الزاي والباقون بالضم، ومن صلة على القراءتين، وإنما قيد بقوله تعالى: {في الأرض ولا في السماء} تقريباً لعقول العامّة. فإن قيل: لم قدّم ذكر الأرض على السماء، وقدم ذكر السماء على الأرض في سورة سبأ حيث قال تعالى: {ولا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض} فما فائدة ذلك؟ أجيب: بأنّ الكلام هنا في حال أهلها، والمقصود منه هو البرهان على إحاطة علمه، على أنّ العطف بالواو حكمه حكم التثنية {ولا أصغر من ذلك} أي: الذرّة {ولا أكبر} أي: منها {إلا في كتاب مبين} أي: بين وهو اللوح المحفوظ. وقرأ حمزة برفع الراء من أصغر وأكبر على الابتداء والخبر، والباقون بالنصب على أنّ ذلك اسم لا وفي كتاب خبرها
{ألا إنّ أولياء الله} أي: الذين يتولونه بالطاعة ويتولاهم بالكرامة {لا خوف عليهم} من لحوق مكروه {ولا هم يحزنون} بفوات مأمول، وفسرهم بقوله تعالى:
{الذين آمنوا وكانوا يتقون} الله بامتثال أمره ونهيه، وهذا الذي فسر الله تعالى به الأولياء لا مزيد عليه. وعن علي رضي الله عنه: هم قوم صفر الوجوه من السهر، عمش العيون من العبر، خمص البطون من الخوا. وعن سعيد بن جبير أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل من أولياء الله تعالى؟ فقال: «هم الذين يذكر الله برؤيتهم» يعني السمت والهيئة. وعن ابن عباس: الإخبات والسكينة. وعن عمر رضي الله تعالى عنه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنّ من عباد الله عباداً ما هم بأنبياء ولا شهداء تغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة لمكانهم من الله، قالوا: يا رسول الله أخبرنا من هم؟ وما أعمالهم؟ فلعلنا نحبهم، قال: هم قوم تحابوا في الله بغير أرحام بينهم ولا أموال يتعاطونها، فوالله إنّ وجوههم لنور، وإنهم لعلى منابر من نور لا يخافون إذا خاف الناس ولا يحزنون إذا حزن الناس» ثم قرأ الآية. ونقل النووي في مقدمة «شرح المهذب» عن الإمامين الشافعيّ وأبي حنيفة رضي الله تعالى عنهما أنّ كلاً منهما قال: إذا لم تكن العلماء أولياء لله فليس لله وليّ. وذلك في العالم العامل بعلمه. وقال القشيري: من شرط الوليّ أن يكون محفوظاً كما أن من شرط النبيّ أن يكون معصوماً، فكل من كان للشرع عليه اعتراض فهو مغرور مخادع. فالوليّ هو الذي توالت أفعاله على الموافقة. ولما نفى الله عنهم الخوف والحزن زادهم فقال تعالى مبيناً لتوليته لهم بعد أن شرع بتوليتهم له:
{لهم البشرى} أي: الكاملة {في الحياة الدنيا وفي الآخرة} أمّا البشرى في الدنيا ففسرت بأشياء منها: الرؤيا الصالحة، فقد ورد أنه صلى الله عليه وسلم قال: «البشرى هي الرؤيا الصالحة يراها المؤمن أو ترى له» . وقال صلى الله عليه وسلم «ذهبت النبوة وبقيت المبشرات» وقال: «الرؤيا الصالحة من الله، والحلم من الشيطان، فإذا حلم أحدكم حلماً يخافه فليتعوّذ منه وليبصق عن شماله ثلاث مرّات فإنه لا يضرّه» . وقال: «الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة» ومنها: محبة الناس له، وذكرهم إياه في الثناء الحسن. وعن أبي ذرّ قال: قلت: يا رسول الله، إنّ الرجل يعمل العمل لله ويحبه الناس فقال: «تلك عاجل بشرى المؤمن» . ومنها: البشرى لهم عند الموت، قال تعالى: {تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة} (فصلت، 30) . وأمّا البشرى في الآخرة فتلقي الملائكة إياهم مسلمين مبشرين بالفوز والكرامة، وما يرونه من بياض وجوههم، وإعطاء الصحائف بأيمانهم، وما يقرؤون منها، وسلام الله تعالى عليهم كما قال تعالى: {سلامٌ قولاً من ربَ رحيم} (يس، 58) وغير ذلك من المبشرات بما بشر الله تعالى به عباده المتقين في كتابه، وعلى ألسنة أنبيائه من جنته وكريم ثوابه، فإن لفظ البشارة مشتق من خبر سار يظهر أثره في بشرة الوجه، فكل ما كان كذلك دخل في هذه الآية، ثم إنه تعالى لما ذكر صفة أوليائه وشرح أحوالهم قال تعالى: {لا تبديل} أي: بوجه من الوجوه {لكلمات الله} أي: لا تغيير لأقواله ولا إخلاف لمواعيده، والكلمة والقول سواء، ونظيره قوله تعالى: {ما يبدّل القول لديّ} (ق، 29) . وقوله تعالى: {ذلك} إشارة إلى كونهم مبشرين في الدارين {هو الفوز العظيم} هذه الجملة والتي قبلها اعتراض لتحقق المبشر به وتعظيم شأنه، وليس من شرطه أن يقع بعده كلام يتصل بما قبله.
{ولا يحزنك} يا محمد {قولهم} أي: هؤلاء المشركين، أي: لا يغمك تكذيبهم وتهديدهم وتشويرهم في تدبير هلاكك وإبطال أمرك، وسائر ما يتكلمون به في شأنك. وقرأ نافع بضم الياء وكسر الزاي من أحزنه، والباقون بفتح الياء وضم الزاي وكلاهما بمعنى. وقوله تعالى: {إن العزة} أي: القوة {لله جميعاً} استئناف بمعنى التعليل، كأنه قيل: ما لي لا أحزن فقيل إن العزة لله جميعاً،، أي: أنّ الغلبة والقهر في مملكة الله لله جميعاً، لا يملك أحد شيئاً منها لا هم ولا غيرهم، فهو يغلبهم وينصرك عليهم. قال تعالى: {كتب الله لأغلبنّ أنا ورسلي} (المجادلة، 21) . وقال تعالى: {إنا لننصر رسلنا} (غافر، 51) .
وقيل: إنّ المشركين كانوا يتعززون بكثرة أموالهم وأولادهم وعبيدهم، فأخبر الله تعالى أنَّ جميع ذلك في ملكه فهو قادر على أن يسلب جميع ذلك ويذلهم بعد العز {هو السميع} أي: البليغ السمع لأقوالهم {العليم} أي: المحيط العلم بضمائرهم وجميع أحوالهم فهو البالغ القدرة على كل شيء فيجازيهم، وهو تعليل لتفرّده بالعزة؛ لأنه تفرّد بهذين الوصفين فانتفيا عن غيره، ومن انتفيا عنه كان دون الحيوانات العجم فأنى يكون له عزة؟ فإن قيل: قوله تعالى: {إنّ العزة لله جميعاً} يضادّ قوله تعالى: {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين} (المنافقون، 8) أجيب: بالمنع لأنّ عزة الرسول والمؤمنين كلها بالله فهي لله.
{ألا إنّ لله من في السموات ومن في الأرض} ملكاً وخلقاً. فإن قيل: قد ذكر الله تعالى في الآية المتقدّمة {ألا إنَّ لله ما في السموات والأرض} بلفظ ما وقال هنا بلفظ من فما فائدة ذلك؟ أجيب: بأنه تعالى غلب في الآية الأولى ما لا يعقل على من يعقل لكثرته، وفي هذه غلب العاقل على غيره لشرفه، وقيل: مجموع الآيتين دال على أنّ الكل خلقه وملكه، وقيل: إنّ المراد بمن في السموات الملائكة، وبمن في الأرض الثقلان، وإنما خصهم بالذكر لشرفهم، وإذا كان هؤلاء في ملكه وتحت قهره فما لا يعقل منها أحق أن لا يكون له ندّا وشريكاً فهو كالدليل على قوله تعالى: {وما يتبع الذين يدعون} أي: يعبدون {من دون الله} أي: غيره أصناماً {شركاء} على الحقيقة وإن كانوا يسمونها شركاء ـ تعالى الله عن ذلك ـ {إنّ} أي: ما {يتبعون} في ذلك {إلا الظنّ} أي: ظنها أنها آلهة تشفع لهم وأنها تقربهم إلى الله تعالى، ثم بيّن تعالى أنّ هذا الظنّ لا حكم له بقوله تعالى: {وإن} أي: ما {هم إلا يخرصون} أي: يكذبون في ذلك، ويجوز