إضافة القول إلى الأفواه تصوير لنفاقهم، فإنّ إيمانهم موجود في أفواههم فقط وبهذا انتفى كونه للتأكيد، كما قيل به لتحصيل هذه الفائدة وقال ابن عادل: والظاهر أنّ القول يطلق على اللساني وعلى النفساني فتقييده بأفواههم تقييد لأحد محمليه اللهمّ إلا أن يقال إطلاقه على النفساني مجاز {وا أعلم بما يكتمون} أي: عالم بما في ضمائرهم وبما يخلو به بعضهم إلى بعض فإنه يعلم ذلك مفصلاً بعلم واجب وأنتم تعلمونه مجملاً بإمارات وجوّزوا في موضع.
{الذين قالوا} ألقاب الإعراب الثلاثة: الرفع والنصب والجرّ، فالرفع من ثلاثة أوجه: أحدها: أن يكون مرفوعاً على خبر مبتدأ محذوف تقديره هم الذين، الثاني: أنه بدل من واو يكتمون، الثالث: إنه مبتدأ والخبر قوله {قل فادرؤا} ولا بد من حذف عائد تقديره قل لهم فادرؤا، والنصب من ثلاثة أوجه أيضاً: أحدها: النصب على الذمّ أي: أذم الذين قالوا، الثاني: أنه بدل من الذين نافقوا، الثالث: إنه صفة لهم، والجرّ من وجهين: أحدهما أنه بدل من الضمير في بأفواههم، والثاني: أنه بدل من الضمير في قلوبهم. كقول الفرزدق:
*على حالة لو أنّ في القوم حاتماً ... على جوده لضنّ بالماء حاتم*
بجرّ حاتم على أنه بدل من الهاء في جوده وضن مبني للمفعول وهو بالماء أي: ولو أن حاتماً مستقرّاً في القوم كائناً على جوده، وهم بتلك الحالة لبخل بالماء {لإخوانهم} أي: لأجل إخوانهم من جنس المنافقين المقتولين يوم أحد أو إخوانهم في النسب أو في سكنى الدار أو في عداوة النبيّ صلى الله عليه وسلم وقوله تعالى: {وقعدوا} حال مقدّرة بقد أي: قالوا: قاعدين عن القتال {لو أطاعونا} في القعود {ما قتلوا} كما لم نقتل. واختلف في قائل ذلك، فقال أكثر المفسرين: هو ابن أبي وأصحابه، وقول الأصم هذا لا يجوز؛ لأنّ ابن أبي خرج مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في الجهاد يوم أحد وهذا القول واقع ممن تخلف فيه نظر لاحتمال أنّ المراد بالقعود القعود عن القتال لا عن الخروج إلى القتال {قل:} لهم {فادرؤا} أي: ادفعوا {عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين} في أن القعود ينجي منه لأنكم إن دفعتم القتل الذي هو أحد أسباب الموت لم تقدروا على دفع سائر أسبابه المبثوثة ولا بد لكم أن يتعلق بكم بعضها.
وروي أنه مات يوم قالوا هذه المقالة: سبعون منافقاً.
فإن قيل: ما وجه هذا الاستدلال فإن التحرز عن القتل ممكن وأمّا التحرز عن الموت فغير ممكن؟ أجيب: بأن الكل بقضاء الله وقدره فلا فرق بين الموت والقتل وفي قوله تعالى: {فادرؤا عن أنفسكم الموت} استهزاء بهم أي: إن كنتم رجالاً دفاعين لأسباب الموت فادرؤا جميع أسبابه حتى لا تموتوا، ونزل في شهداء أحد كما رواه الحاكم: وكانوا سبعين رجلاً: أربعة من المهاجرين حمزة بن عبد المطلب ومصعب بن عمير وعثمان بن شاس وعبد الله بن جحش وسائرهم من الأنصار.
{ولا تحسبن} أي: ولا تظنن {الذين قتلوا في سبيل الله} أي: لأجل دينه والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أو لكل أحد {أمواتاً بل} هم {أحياء عند ربهم} أي: ذوو زلفى منه فليس المراد القرب المكاني لاستحالته ولا بمعنى في علمه وحكمه لعدم مناسبة المقام له بل بمعنى القرب شرفاً ورتبة.
قال البيضاوي وقيل: نزلت في شهداء بدر أي: وكانوا أربعة عشر رجلاً ثمانية من الأنصار وستة من المهاجرين، قال شيخنا القاضي زكريا: وهو غلط إنما نزل فيهم آية البقرة