فسر هذين الغمين بغمين من هذه وبعضهم بخلافه وقال القفال: وعندي أن الله تعالى ما أراد بقوله غماً بغمّ اثنين وإنما أراد مواصلة الغموم وطولها أي: إن الله تعالى عاقبكم بغموم كثيرة مثل قتل إخوانكم وأقاربكم ونزول المشركين من فوق الجبل عليكم بحيث لم تأمنوا أن يهلك أكثركم، فكأنه تعالى قال: أثابكم هذه الغموم المتعاقبة ليصير ذلك زجراً لكم عن الإقدام على المعصية والإشتغال بما يخالف أمر الله تعالى. والغمّ التغطية ومنه غمّ الهلال إذا لم ير وقوله تعالى {لكيلا تحزنوا على ما فاتكم} أي: من الغنيمة متعلق بعفا أو بأثابكم فلا زائدة {ولا ما أصابكم} أي: من القتل والهزيمة {وا خبير بما تعملون} أي: عالم بأعمالكم وبما قصدتم بها.
{ثم أنزل عليكم} يا معشر المسلمين {من بعد الغمّ أمنة} أي: أمناً والأمن والأمنة بمعنى واحد وقيل: الأمن يكون مع زوال سبب الخوف، والأمنة مع بقاء سبب الخوف وكان سبب الخوف ههنا قائماً وقوله تعالى: {نعاساً} بدل من أمنة، وأمنة مفعول أو نعاساً هو المفعول وأمنة حال منه متقدّمة {يغشى طائفة منكم} وهم المؤمنون. وقرأ حمزة والكسائيّ بالتاء على التأنيث ردّاً إلى الأمنة والباقون بالياء على التذكير ردّاً إلى النعاس {وطائفة} وهم المنافقون {قد أهمتهم أنفسهم} أي: حملتهم على الهزيمة فلا رغبة لهم إلا إنجاءها دون النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه فلم يناموا، فإن الذين كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد فريقان أحدهما: الجازمون بنبوّة محمد صلى الله عليه وسلم فهؤلاء كانوا قاطعين بأن الله ينصر هذا الدين وأن هذه الوقعة لا تؤدّي إلى الاستئصال فلا جرم كانوا آمنين وبلغ ذلك الأمن إلى أن غشيهم النعاس فإن النوم لا يجيء مع الخوف، قال أبو طلحة: غشينا النعاس ونحن في مصافنا يوم أحد فكان السيف يسقط من أحدنا فيأخذه ثم يسقط فيأخذه، وقال ثابت عن أنس عن أبي طلحة قال: رفعت رأسي يوم أحد فجعلت ما أرى أحداً من القوم إلا وهو يميل تحت حجفته من النعاس. قال الزبير: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين اشتدّ الخوف، فأرسل الله علينا النوم والله إني لأسمع قول معتب بن بشير والنعاس يغشاني ما أسمعه إلا كالحلم يقول: {لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا} . والفريق الثاني: هم المنافقون كانوا شاكين في نبوّته صلى الله عليه وسلم وما حضروا إلا لطلب الغنيمة فهؤلاء اشتدّ جزعهم وعظم خوفهم. قال ابن مسعود: النعاس في القتال أمنة، والنعاس في الصلاة من الشيطان وذلك لأنه في القتال لا يكون إلا من الوثوق بالله والفراغ من الدنيا، ولا يكون في الصلاة إلا من غاية البعد عن الله.
فإن قيل: ما فائدة هذا النعاس؟ أجيب: بأنّ له فوائد: الأولى: أنّ السهر يوجب الضعف والكلال والنوم يفيد عود القوّة والنشاط والثانية: أنّ الكفار لما اشتغلوا بقتل المسلمين ألقى الله تعالى النوم على الباقين لئلا يشاهدوا قتل غيرهم فيشتدّ خوفهم والثالثة: أنّ الأعداء كانوا في غاية الحرص على قتلهم فبقاؤهم في النوم مع السلامة في تلك المعركة من أدل الدلائل على أنّ الله تعالى يحفظهم ويعصمهم وذلك مما يزيل الخوف من قلوبهم ويورّثهم الأمن.
تنبيه: قوله تعالى: {وطائفة} مبتدأ والخبر {قد أهمتهم أنفسهم} .
فإن قيل: كيف جاز الإبتداء بالنكرة؟ أجيب: بأنه جاز لأحد