والمسلمون على آثارهم، ثم اشتغل بعضهم بالغنيمة كما قال تعالى: {منكم من يريد الدنيا} وهم التاركون المركز للغنيمة {ومنكم من يريد الآخرة} وهم الثابتون مع عبد الله بن جبير حتى قتلوا.

فإن قيل: فإذا كان البعض هو المخالف فكيف جاء العتاب عاماً بقوله: {وعصيتم} أجيب: بأنّ اللفظ وإن كان عاماً فقد جاء المخصص بعده وهو قوله: {منكم} وقوله تعالى: {ثم صرفكم} أي: ردّكم بالهزيمة {عنهم} أي: الكفار عطف على ما قبله والجملتان من قوله منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة اعتراض بين المتعاطفين وقيل: عطف على جواب إذا المقدّر {ليبتليكم} أي: ليمتحنكم فيظهر المخلص من غيره {ولقد عفا عنكم} ما ارتكبتموه من مخالفة أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم وميلكم إلى الغنيمة تفضلاً منه تعالى.

فإن قيل: إنّ ظاهر الآية يدل على أنّ الذنب من الصغائر لصحة العفو عنه من غير توبة لقيام الدليل على أن أصحاب الكبائر إذا لم يتوبوا لم يكونوا من أهل العفو والمغفرة أجيب: بأنّ هذا الذنب لا شك أنه كبيرة لأنهم خالفوا صريح نص الرسول صلى الله عليه وسلم وصارت تلك المخالفة سبباً لانهزام المسلمين فلا بدّ من إضمار توبتهم {وا} أي: المتفضل المنعم {ذو فضل على المؤمنين} أي: يتفضل عليهم بالعفو أو في الأحوال كلها سواء أجعلت الدولة لهم أم عليهم إذ الإبتلاء أيضاً رحمة وقوله تعالى:

{إذ} العامل فيها مضمر أي: اذكر إذ {تصعدون} أي: تبعدون في الأرض هاربين {ولا تلوون} أي: تعرجون {على أحد} أي: لا يقف أحد لأحد ولا ينتظره {والرسول يدعوكم} أي: يقول: إليّ عباد الله إليّ عباد الله أنا رسول الله من يكرّ فله الجنة {في أخراكم} أي: من ورائكم {فأثابكم} أي: جازاكم {غماً} بالهزيمة {بغمّ} أي: بسبب غمكم الرسول بالمخالفة. وقيل: الباء بمعنى على أي: مضاعفاً على غمّ فوت الغنيمة.

والغموم كانت هناك كثيرة أحدها: غمهم بما نالهم من العدوّ في الأنفس والأموال وثانيها: غمهم بما وقع منهم من المعصية وخوف عقابها وثالثها: غمهم بما وصل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ورابعها: غمهم بسبب التوبة التي صارت واجبة عليهم؛ لأنهم إذا تابوا عن تلك المعصية لم تتم توبتهم إلا بترك الهزيمة والعود إلى المحاربة بعد الإنهزام وذلك من أشق الأشياء؛ لأنّ الإنسان بعد انهزامه يضعف قلبه ويجبن فإذا أمر بالمعاودة فإن فعل خاف القتل، وإن لم يفعل خاف عقاب الآخرة وخامسها: غمهم حين سمعوا أن محمداً قد قتل وسادسها: غمهم حين أشرف عليهم خالد بن الوليد بخيل المشركين وسابعها: غمهم حين أشرف عليهم أبو سفيان.

وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انطلق يومئذٍ يدعو الناس حتى انتهى إلى أصحاب الصخرة، فلما رأوه وضع رجل سهماً في قوسه وأراد أن يرميه فقال: «أنا رسول الله» ففرحوا حين وجدوه وفرح صلى الله عليه وسلم حين رأى من يمتنع به فأقبلوا على المشركين يذكرون الفتح وما فاتهم منه ويذكرون أصحابهم الذين قتلوا، فأقبل أبو سفيان وأصحابه حتى وقفوا بباب الشعب، فلما نظر المسلمون إليهم همهم ذلك وظنوا أنهم يميلون عليهم، فيقتلونهم فأنساهم هذا ما نالهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ليس لهم أن يعلونا اللهمّ إن تقتل هذه العصابة لا تعبد في الأرض» ثم بدت أصحابه فرموهم بالحجارة حتى أنزلوهم، وإذا عرفت ذلك فلا يضر اختلاف المفسرين، فإن بعضهم

طور بواسطة نورين ميديا © 2015