وقال الضحاك وغيره: هذا في الدنيا وكانت تعير النبيّ صلى الله عليه وسلم بالفقر وهي تحتطب في حبل تجعله في جيدها من ليف فخنقها الله عز وجل به فأهلكها، وهو في الآخرة حبل من نار. فإن قيل: إن كان ذلك حبلها فكيف يبقى في النار؟ أجيب: بأنّ الله تعالى قادر على تجدده كلما احترق كما يبقي اللحم والعظم أبداً في النار. وعن ابن عباس قال: هو سلسلة ذرعها سبعون ذراعاً تدخل فيها وتخرج من أسفلها، ويلوي سائرها على عنقها.
وقال قتادة: هو قلادة من ودع. وقال الحسن: إنما كان خرزاً في عنقها. وقال سعيد بن المسيب: كانت لها قلادة فاخرة من جوهر فقالت: واللات والعزى لانفقنها في عداوة محمد، ويكون ذلك عذاباً في جيدها يوم القيامة. وقيل: إنّ ذلك إشارة إلى الخذلان يعني أنها مربوطة عن الإيمان لما سبق لها من الشقاء كالمربوط في جيده بحبل من مسد والمسد الفتل، يقال: مسد حبله يمسده مسداً، أي: أجاد فتله والجمع أمساد. وروي أنها لما سمعت ما نزل فيها وفي زوجها من القرآن أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد عند الكعبة ومعه أبو بكر، وفي يدها فهر من حجارة تريد أن ترميه به فلما وقفت عليه أخذ الله تعالى بصرها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا ترى إلا أبا بكر، فقالت: يا أبا بكر أين صاحبك قد بلغني أنه يهجوني، والله لو وجدته لضربت بهذا الفهر فاه، والله إني لشاعرة:
* ... مذمما عصينا وأمره أبينا ودينه قلينا
ثم انصرفت، فقال أبو بكر: يا رسول الله أما ترى ما رأتك قال صلى الله عليه وسلم «ما رأتني لقد أخذ الله تعالى بصرها» عني وكانت قريش إنما تسمي محمداً صلى الله عليه وسلم مذمما ثم يسبونه، وكان صلى الله عليه وسلم يقول: «ألاتعجبوا لما صرف الله تعالى عني من أذى قريش يهجون مذمماً وأنا محمداً» . انظر كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحمل هذا الأذى ويحلم عليهم فينبغي لغيره أن يكون له به أسوة قال الله تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} (الأحزاب: 21)
تنبيه: احتج أهل السنة على تكليف ما لا يطاق بأنه تعالى كلف أبا لهب بالإيمان بتصديق الله تعالى في كل ما أخبر عنه أنه لا يؤمن من أهل النار، فإنه قد صار مكلفاً بأن يؤمن بأنه لا يؤمن، وهذا تكليف بالجمع بين النقيضين وهو محال وذلك مذكور في أصول الفقه. وقد تضمنت هذه الآيات الأخبار عن الغيب بثلاثة أوجه:
أحدها: الإخبار عنه بالتباب والخسران وقد كان ذلك.
ثانيها: الإخبار عنه بعدم الانتفاع بماله وولده وقد كان ذلك.
ثالثها: الإخبار عنه بأنه من أهل النار وقد كان ذلك، لأنه مات على الكفر هو وامرأته ففي ذلك معجزة للنبيّ صلى الله عليه وسلم وامرأته خنقها الله تعالى بحبلها كما مرّ، وأبو لهب رماه الله تعالى بالعدسة بعد وقعة بدر بسبع ليال فمات، وأقام ثلاثة أيام لا يدفن حتى أنتن ثم إنّ ولده غسله بالماء قذفاً من بعيد مخافة عدوى العدسة وكانت قريش تتقيها كما تتقي الطاعون، ثم احتملوه إلى أعلى مكة وأسندوه إلى جدار ثم رضموا عليه الحجارة. وقيل: إنّ الله تعالى يدخل امرأته جهنم على الصورة التي كانت عليها حين كانت تحمل حزمة الحطب، ولا تزال على ظهرها حزمة من حطب النار من أصل شجرة الزقوم، أو من الضريع وفي جيدها حبل من مسد من سلاسل النار، كما يعذب كل مجرم بما يجانس حاله في جرمه.
وقول