حسيسها} (الأنبياء: 102)
وجواب إذا قوله: {فأمّا من طغى} أي: تجاوز الحد في العدوان حتى كفر بربه {وآثر} أي: قدّم واختار {الحياة الدنيا} أي: انهمك فيها ولم يستعدّ للآخرة بالعبادة وتهذيب النفس {فإنّ الجحيم} أي: النار الشديدة التوقد العظيمة {هي} أي: خاصة {المأوى} أي: مأواه كما تقول للرجل: غض الطرف، تريد طرفك، وليست الألف واللام بدلاً عن الإضافة، ولكن لما علم أنّ الطاغي هو صاحب المأوى، وأنه لا يغض الرجل طرف غيره تركت الإضافة.
تنبيه: {هي} يجوز أن تكون فصلاً أو مبتدأ.
{وأمّا من خاف مقام ربه} أي: قيامه بين يديه لعلمه بالمبدأ وبالمعاد، وقال مجاهد: خوفه في الدنيا من الله تعالى عند مواقعة الذنب فيقلع عنه نظيره {ولمن خاف مقام ربه جنتان} (الرحمن: 46)
{ونهى النفس} أي: الأمارة بالسوء {عن الهوى} وهو اتباع الشهوات وزجرها عنها وضبطها بالصبر والتوطين على إيثار الخير.
{فإنّ الجنة} أي: البستان لكل ما يشتهى {هي} أي: خاصة {المأوى} أي: ليس له سواها مأوى، وحاصل الجواب أنّ العاصي في النار والطائع في الجنة. قال الرازي: هذان الوصفان مضادان للوصفين المتقدّمين فقوله تعالى: {فأما من خاف مقام ربه} ضد قوله تعالى: {فأما من طغى} . {ونهى النفس عن الهوى} ضد قوله تعالى: {وآثر الحياة الدنيا} فكما دخل في ذينك الوصفين جميع القبائح دخل في هذين الوصفين جميع الطاعات. وقال عبد الله بن مسعود: أنتم في زمان يقود الحق الهوى، وسيأتي زمان يقود الهوى الحق، فتعوّذوا بالله من ذلك الزمان.
تنبيه: اختلف في سبب نزول هاتين الآيتين، فقيل: نزلتا في مصعب بن عمير وأخيه. روى الضحاك عن ابن عباس قال: {أمّا من طغى} فهو أخو مصعب بن عمير أسر يوم بدر وأخذته الأنصار فقالوا: من أنت، قال: أنا أخو مصعب بن عمير فلم يشدّوه في الوثاق وأكرموه وبيتوه عندهم فلما أصبحوا حدّثوا مصعب بن عمير حديثه، فقال: ما هو لي بأخ شدّوا أسيركم، فإنّ أمّه أكثر أهل البطحاء حلياً ومالاً، فأوثقوه حتى تبعث أمّه فداءه، {وأمّا من خاف مقام ربه} فمصعب بن عمير وقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه يوم أحد حين تفرق الناس عنه حتى نفذت المشاقص في جوفه، والمشاقص جمع مشقص وهو السهم العريض، فلما رآه صلى الله عليه وسلم متشحطاً في دمه قال صلى الله عليه وسلم «عند الله أحتسبك» وقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «لقد رأيته وعليه بردان ما تعرف قيمتهما وإنّ شراك نعله من ذهب» وعن ابن عباس أيضاً: نزلت في رجلين أبي جهل بن هشام ومصعب بن عمير. وقال السدي: نزلت الآية الثانية في أبي بكر الصديق رضي الله عنه. وقال الكلبي: هما عامّتان.
ولما سمع المشركون أخبار القيامة ووصفها بالأوصاف الهائلة مثل الطامّة الكبرى والصاخة والقارعة وسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم استهزاءً متى تكون الساعة؟ نزل: {يسئلونك} يا أشرف الخلق {عن الساعة} أي: البعث الآخر لكثرة ما تتوعدهم به من أمرها {أيان مرساها} أي: في أي وقت إرساؤها، أي: إقامتها أرادوا متى يقيمها الله تعالى ويثبتها ويكوّنها، أو أيان منتهاها ومستقرّها، كما أنّ مرسى السفينة مستقرّها حيث تنتهي إليه.
فأجابهم الله تعالى بقوله سبحانه: {فيم} أي: في أي شيء {أنت من ذكراها} أي: من أن تذكر وقتها لهم وتعلهم به.
تنبيه: {فيم} خبر مقدّم و {أنت} مبتدأ مؤخر و {من ذكراها} متعلق بما تعلق به الخبر، والمعنى: أنت في أي شيء من ذكراها، أي: ما أنت من