جعله مظلماً بغياب شمسها فأخفى ضياءها بامتداد ظل الأرض على كل ما كانت الشمس ظهرت عليه، فصار لا يهتدي معه إلى ما كان في حال الضياء، وأضاف الليل إلى السماء لأنّ الليل يكون بغروب الشمس والشمس تضاف إلى السماء. ويقال: نجوم الليل، لأنّ ظهورها بالليل.
وقوله تعالى: {وأخرج ضحاها} فيه حذف، أي: ضحى شمسها، أو أضاف الليل والضحى لها للملابسة التي بينها وبينهما لأنّ الليل ظلها والشمس هي السراج المثقب في جوّها، وإنما عبر عن النهار بالضحى؛ لأنّ الضحى أكمل أجزاء النهار بالنور والضوء.
{والأرض بعد ذلك} أي: بعد المذكور كله {دحاها} أي: بسطها ومهدها للسكنى وبقية المنافع، وكانت مخلوقة قبل السماء من غير دحو فلا معارضة بينها وبين آية فصلت؛ لأنه خلق الأرض أولاً غير مدحوة ثم خلق السماء، ثم دحا الأرض. قال ابن عباس رضي الله عنهما: خلق الله تعالى الأرض بأقواتها من غير أن يدحوها قبل السماء فسوّاها سبع سموات ثم دحا الأرض بعد ذلك. وقيل: معناه والأرض مع ذلك دحاها كقوله تعالى: {عتلّ بعد ذلك} (القلم: 13)
أي: مع ذلك، ومنه قولهم: أنت أحمق، وأنت بعد هذا سيء الخلق.
وقيل: بعد بمعنى قبل كقوله تعالى: {ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر} (الأنبياء: 105)
أي: من قبل، وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: خلق الله تعالى الكعبة ووضعها على الماء على أربعة أركان قبل أن يخلق الدنيا بألفي عام، ثم دحيت الأرض من تحت البيت.
{أخرج منها} أي: الأرض {ماءها} أي: بتفجير عيونها، وإضافتها إليها دليل على أنه مودوع فيها {ومرعاها} أي: النبات الذي يرعى مما يأكله الناس والأنعام من العشب والشجر والثمر والحب حتى النار والملح، لأنّ النار من العيدان قال تعالى: {أفرأيتم النار التي تورون} (الواقعة: 71)
الآية، والملح من الماء، واستعير الرعي للإنسان كما استعير الرتع في قوله تعالى عن إخوة يوسف عليه السلام: {يرتع ويلعب} (يوسف: 12)
والمرعى في الأصل موضع الرعي.
تنبيه: أخرج حال بإضمار قد أي: مخرجاً، وإضمار قد هو قول الجمهور وخالف الكوفيون والأخفش.
{والجبال أرساها} أي: أثبتها على وجه الأرض لتسكن، ونظيره قوله تعالى: {والجبال أوتاداً} (النبأ: 7)
وقوله تعالى: {متاعاً} مفعول له لمقدّر، أي: فعل ذلك منفعة أو مصدر لعامل مقدّر أي: متعكم تمتيعاً.
{لكم} وقوله تعالى: {ولأنعامكم} جمع نعم وهي الإبل والبقر والغنم، وذكر الأنعام لكثرة الانتفاع بها.
{فإذا جاءت الطامة الكبرى} أي: الداهية التي تطم على الدواهي أي: تعلو وتغلب، وفي أمثالهم: جرى الوادي فطم على القرى، قال ابن عباس: وهي النفخة الثانية التي يكون معها البعث. وقال الضحاك: هي القيامة سميت بذلك لأنها تطم على كل شيء فتغمره. وقال القاسم بن الوليد الهمداني: هي الساعة التي يساق فيها أهل الجنة إلى الجنة، وأهل النار إلى النار.
وقوله تعالى: {يوم يتذكر} أي: تذكراً عظيماً {الإنسان} أي: الخلق الآنس بنفسه الغافل عما خلق له بدل من إذا {ما سعى} في الدنيا من خير أو شرّ، يعني: إذا رأى أعماله مدوّنة في كتابه تذكرها، وكان قد نسيها كقوله تعالى: {أحصاه الله ونسوه} (المجادلة: 6)
وما في {ما سعى} موصولة أو مصدرية.
{وبرّزت الجحيم} أي: أظهرت النار المحرقة إظهاراً بيناً مكشوفاً {لمن يرى} أي: لكل راء، كقولهم: قد تبين الصبح لذي عينين، يريدون لكل من له بصر، وهو مثل في الأمر المنكشف الذي لا يخفى على أحد، لكن الناجي لا ينصرف بصره إليها فلا يراها، كما قال تعالى: {لا يسمعون