أبو جهل لقريش: ثكلتكم أمّهاتكم أسمع ابن أبي كبشة يخبر أنّ خزنة النار تسعة عشر وأنتم الدهم ـ يعني الشجعان ـ أفيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا بواحد من خزنة جهنم؟ فقال أبو الأشد بن كلدة بن خلف الجمحي: أنا أكفيكم منهم سبعة عشر، عشرة على ظهري وسبعة على بطني فاكفوني أنتم اثنين. وروي أنه قال: أنا أمشي بين أيديكم على الصراط فأدفع عشرة بمنكبي الأيمن وسبعة بمنكبي الأيسر في النار، ونمضي فندخل الجنة، فأنزل الله عز وجل:
{وما جعلنا} أي: لنا من العظمة وإن خفي وجه العظمة فيه على من عمي قلبه {أصحاب النار} أي: خزنتها {إلا ملائكة} أي: لم نجعلهم رجالاً فتغالبوهم وإنما جعلهم ملائكة لأنهم خلاف جنسي الفريقين من الجنّ والإنس فلا يأخذهم ما يأخذ المجانس من الرحمة والرأفة ولأنهم أشدّ بأساً وأقوى بطشاً فقوّتهم أعظم من قوّة الإنس والجنّ ولذلك جعل الرسول إلى البشر من جنسهم ليكون له رأفة ورحمة بهم.
فإن قيل: ثبت في الأخبار أنّ الملائكة مخلوقون من النور فكيف تطيق المكث في النار؟ أجيب: بأنّ الله تعالى قادر على كل الممكنات فكما أنه لا استبعاد في أنه يبقى الحي في مثل ذلك العذاب الشديد أبد الآباد ولا يموت، فكذا لا استبعاد في إبقاء الملائكة هناك من غير ألم.
{وما جعلنا} أي: بما لنا من العظمة {عدّتهم} أي: مذكورة ومحصورة {إلا فتنة} أي: بلية {للذين كفروا} وقال ابن عباس رضي الله عنهما: ضلالة وفتنة مفعول ثان على حذف مضاف أي: إلا سبب فتنة وللذين صفة الفتنة وليست فتنة مفعولاً له. وقول البيضاوي وما جعلنا عددهم إلا العدد الذي اقتضى فتنتهم وهو التسعة عشر تبعاً للزمخشري، قال أبو حيان: إنه تحريف لكتاب الله إذ زعم أنّ معنى إلا فتنة للذين كفروا إلا تسعة عشر وهذا لا يذهب إليه عاقل ولا من له أدنى ذكاء.
وقال الرازي: إنما صار هذا العدد سبباً لفتنة الكفار من وجهين: الأوّل: أنّ الكفار يستهزئون ويقولون لم لا يكونون عشرين، وما المقتضي لتخصيص هذا العدد. والثاني: أن الكفار يقولون هذا العدد القليل كيف يكونون وافين بتعذيب أكثر العالم من الجنّ والإنس من أوّل ما خلق الله إلى قيام الساعة؟
وأجيب: عن الأوّل بأنّ هذا السؤال لازم على كل عدد يفرض، وعن الثاني بأنه لا يبعد أن الله تعالى يرزق ذلك العدد القليل قوّة تفي بذلك، فقد اقتلع جبريل عليه السلام مدائن قوم لوط على أحد جناحيه ورفعها إلى السماء حتى سمع أهل السماء صياح ديكتهم ثم قلبها فجعل عاليها سافلها، وأيضاً فأحوال القيامة لا تقاس بأحوال الدنيا ولا للعقل فيها مجال. وذكر أرباب المعاني في تقرير هذا العدد وجهين:
أحدهما: ما قاله أرباب الحكمة إنّ سبب فساد النفس الإنسانية في قوّتها النظرية والعملية هو القوى الحيوانية والطبيعية، فالقوى الحيوانية هي الخمسة الظاهرة والخمسة الباطنة والشهوة والغضب فهذه اثنا عشر، وأما القوى الطبيعية فهي الجاذبة والماسكة والهاضمة والدافعة والغاذية والنامية والمولدة، فالمجموع تسعة عشر فلما كانت هذه منشآت لا جرم كان عدد الزبانية هكذا.
ثانيهما: أنّ أبواب جهنم سبعة فستة منها للكفار وواحد للفساق، ثم إن الكفار يدخلون النار لأمور ثلاثة: ترك الاعتقاد وترك الإقرار وترك العمل فيكون لكل باب من تلك الأبواب الستة ثلاثة فالمجموع ثمانية عشر، وأما باب الفساق